ياأيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم وأنزلنا إليكم نورا مبينا فأما الذين آمنوا بالله واعتصموا به فسيدخلهم في رحمة منه وفضل ويهديهم إليه صراطا مستقيما .
لما قامت الحجة في الآيات الأخيرة على
النصارى وفيما قبلها على
اليهود ، وهم أهل الكتاب والمعرفة بالنبوات والشرائع ، وقامت الحجة قبل ذلك على المنافقين في أثناء السورة ، كما قامت على المشركين فيها وفي سور كثيرة ، وظهرت نبوة النبي الخاتم ظهور الشمس ليس دونها سحاب ; لأن سحب الشبهات قد انقشعت بالحجج المشار إليها كل الانقشاع - نادى الله - تعالى - الناس كافة ودعاهم إلى اتباع برهانه ، والاهتداء بالنور الذي جاء به ، فقال :
يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم أي قد جاءكم من قبل ربكم ، بفضله وعنايته بتربيتكم وتزكية نفوسكم ، برهان عظيم أو جلي يبين لكم حقيقة الإيمان الصحيح بالله عز وجل ، وجميع ما تحتاجون إليه من أمر دينكم ، مؤيدا لكم ذلك بالدلائل والبينات والحكم ، وهو
محمد النبي العربي الأمي ، الذي يظهر لكل من عرف سيرته في نشأته ، وتربيته وحاله في بعثته ، وسنته ، أنه هو نفسه برهان على حقيقة ما جاء به : أمي لم يتعلم شيئا من الكتب قط ، ولم يعن في طفوليته ، ولا في شبابه بشيء مما كان يسمى علما عند قومه الأميين ; كالشعر والنسب وأيام العرب ، قام في كهولته يعلم الأميين والمتعلمين حقائق العلوم الإلهية ،
[ ص: 82 ] وصفات الربوبية ، وما يجب لتلك الذات العلية ، وما تتزكى به النفس البشرية ، وتصلح به الحياة الاجتماعية ، ويكشف ما اشتبه على أهل الكتاب من أصول دينهم ، وما اضطرب فيه نظار الفلسفة العليا من مسائل فلسفتهم ، ويرفع قواعد الإيمان على أساس الحجج الكونية العقلية ، ويسلك هذا المسلك في بيان الشرائع العلمية ، والحكمة الأدبية ، والسياسة الحربية والاجتماعية ، كل ذلك كان على طريق الحجة والبرهان ، فلا غرو أن يسمى هو نفسه برهانا .
وهو برهان بسيرته العملية ، كما أنه برهان في دعوته العلمية الشرعية ، فقد نشأ يتيما لم يعن بتربيته عالم ولا حكيم ولا سياسي ، بل ترك كما كان ولدان المشركين يتركون وشأنهم ، وكان في سن التعليم وتكون الأخلاق والملكات يرعى الغنم نهارا وينام من أول الليل ، فلا يحضر سمار قومه ( مواضع السمر في الليل ) ولا معاهد لهوهم ، واتجر قليلا في شبابه مع قومه من أبناء الجاهلية وأترابه ، فهو لم يصادف من التربية المنزلية والتأديب الاجتماعي في أول نشأته ، ما يؤهله للمنصب الذي تصدى له في كهولته ، وهو تربية الأمم تربية دينية اجتماعية سياسية حربية ، ولكنه قام بهذه التربية أكمل قيام ، وما زال يعجز عن مثل ما قام به من يستعدون له بالعلوم والأعمال ، فكان بهذا برهانا على عناية الله به ، وتأييده إياه بوحيه وتوفيقه ، وذلك قوله ، عز وجل :
وأنزلنا إليكم نورا مبينا أي وأنزلنا إليكم أيها الناس بما أوحينا إليه كتابا من لدنا هو كالنور ، بين في نفسه ، مبين لكل ما أنزل لبيانه ، تنجلي لكم الحقائق ببلاغته وأساليب بيانه ، بحيث لا يشتبه فيها من تدبره وعقل معانيه ، بل تثبت في عقله ، وتؤثر في قلبه ، وتكون هي الحاكمة على نفسه ، والمصلحة له في عمله .
مثال ذلك
توحيد الله في ألوهيته وربوبيته ، هو أثبت الحقائق ، وأعلى ما يصل إليه البشر من المعارف ، وأفضل ما تتزكى به النفوس وتترقى به العقول ، وقد بعث به جميع رسل الله إلى جميع الأمم ، كان كل منهم يدعو أمته إليه ، وكان يستجيب الناس لهم بقدر استعدادهم لفهم هذه الحقيقة العليا ، ثم لا يلبثون أن يشوهوها بعدهم بالشرك وضروب الوثنية التي تطمس العقول وتدنس النفوس ، وتهبط بالفطرة البشرية من أوج كرامتها وعزتها التي جعلها الله أهلا لها ، إلى المهانة والذلة بالخضوع والخنوع والاستخذاء لبعض المخلوقات من جنسهم ، أو من أجناس أخرى ، فضل الله جنسهم عليها ، وكان أقرب الأمم التاريخية عهدا بالأنبياء والرسل
اليهود والنصارى ، وكانوا على نسيانهم حظا مما ذكروا به لا يزالون يحفظون بعض وصايا رسلهم بالتوحيد ، ولكنهم لا يفقهون معناها إذ يلبسونها بالشرك في الألوهية كاتخاذ
المسيح إلها ، بل اتخاذ من دونه من مقدسيهم آلهة أو أنصاف آلهة ، يزعمون أنهم وسطاء بينهم وبين الله في كل ما ينفعهم ويضرهم في معاشهم ومعادهم
[ ص: 83 ] وبالشرك في الربوبية ; باتخاذ أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله ، يشرعون لهم من الدين ما لم يأذن به الله ، ويحلون لهم ويحرمون عليهم فيتبعونهم .
هكذا
كانت اليهود والنصارى في عهد بعثة النبي صلى الله عليه وسلم ، يتبعون أناسا من علمائهم وأحبارهم ومقدسيهم في عقائد وآداب وشرائع مشوبة بالوثنية والخضوع لغير الله - تعالى - لم تؤخذ من وحي الله المنزل ، كما هو الواجب في أمور الدين الخالص من العقائد والعبادات ، وسائر ما يتقرب به إلى الله تعالى ، ولو كان البشر يستقلون بمعرفة هذا من غير وحي من الله لما كانوا محتاجين إلى بعثة الرسل . وقد يزعمون أنهم كانوا مبينين لما جاء به
موسى وعيسى عليهما السلام ، ولو صدقوا لما صار دينهم في شكل غير ما كانا عليه هما ، ومن كان متبعا لهما في زمنهما ، بحيث لو بعثا ثانية لأنكرا كل ما عليه هؤلاء الأدعياء أو أكثره . وإذا كان الركن الأعظم لدينهما وهو التوحيد قد زلزل عند
اليهود ، وزال من عند
النصارى فكيف يكون دينهما هو دين
موسى وعيسى عليهما السلام ؟ ! هذه إشارة إلى ما كان عليه أقرب الناس عهدا بدعوة الرسل إلى التوحيد ، فما ظنك بغيرهم ؟ فما الذي فعله القرآن في بيان هذه العقيدة ؟
لو لم يجئ
محمد - صلى الله عليه وسلم - في بيان التوحيد بغير عنوانه في الشهادتين ( لا إله إلا الله ) لما كان كتابه نورا مبينا لهذه الحقيقة ; لأن من أشرك من أهل الكتاب وأمثالهم من الأمم القديمة
كالهنود والكلدانيين والمصريين واليونان كانوا يقولون : إن الإله واحد ، وبعضهم كان يصرح بمثل كلمة التوحيد عندنا أو بها نفسها ، ولكنهم كانوا على ذلك مشركين يزعمون أن بعض البشر أو الحيوان أو الجماد ينفع أو يضر بصفة خارقة للعادة ، غير داخلة في سلسلة نظام الأسباب والمسببات ، فيتوجهون إلى تلك الأشياء المعتقدة توجه العبادة . ويزعمون أن ما جاءت به رسلهم من أحكام الدين غير كاف في بيان الدين ، فيجب تركه إلى ما يضعه لهم بعض رؤسائهم من أحكام الحلال والحرام ، من غير نظر في موافقته أو مخالفته له - أي لما جاء به الرسل - أو مع ضرب من النظر التقليدي فيه لدعمه به ، وإرجاعه إليه .
فلما كانت الوثنية قد تغلغلت في جميع الأديان المأثورة وأفسدتها على أهلها ، فقلد بعضهم بعضا فيما ورثوه منها ، أنزل الله لهداية البشر هذا النور المبين - القرآن - فكان أشد إبانة لدقائق مسائل التوحيد وخفاياها من نور الكهرباء المتألق في هذا العصر الذي نرى فيه السراج الواحد في قوة مئات أو ألوف من نور الشمع ، فبين لمن يفهم لغته حقيقة التوحيد بالدلائل والبراهين الكونية والعقلية ، وضرب الأمثال المادية والمعنوية ، وضروب القصص والمواعظ ، والهداية إلى النظر والتجارب ، وكشف ما ران على هذه العقيدة من شبهات المضلين وأوهام الضالين ، التي مزجتها بالشرك مزجا جمع بين الضدين - بل النقيضين - جمعا ، ولون أساليب الكلام فيها ، ونوعه لتتقبل النفس تكراره بقبول حسن ، ولا يعرض لها من ترتيل آياته شيء من الملل .
[ ص: 84 ] فكان بيانه في تشييد صرح الوحدانية ، وتقويض بناء الوثنية بيانا لم يعهد مثله في كماله وتأثيره في كتاب بشري ولا إلهي .
إلا أن إدراك هذه الحقيقة العليا والإحاطة بها ، والعلم بما كان من ضروب الشبهات عليها ، والأباطيل المتخللة فيها ، وبما لها من التمكن في نفوس الناس ، وما يتوقف عليها امتلاخها وانتزاعها من فنون البيان ، بحسب سنة الله - تعالى - في تحويل الأمم من حال إلى حال ، كل ذلك مما لا يعقل أن يتفق لرجل أمي لم يقرأ كتابا في الدين ولا في العلم ، ولا عاشر أحدا عارفا بهما ، كيف ، وقد كان ذلك فوق علوم الذين صرفوا كل حياتهم في الدرس والقراءة . بل نقول : إن هذا البيان الأكمل لتقرير التوحيد واجتثاث جذور الوثنية ، الذي جاء به القرآن وأشرنا إليه آنفا - لم يكن قط معهودا من الحكماء الربانيين ، ولا من النبيين المرسلين ، دع من دونهم من الأميين أو المتعلمين ; لهذا تعين أن يكون الله - تعالى - هو المنزل لهذا النور المبين
وإنه لتنزيل رب العالمين نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين ( 26 : 192 - 195 ) .
فمن تأمل ما قلناه بإنصاف ظهر له به على اختصاره : أن
محمدا النبي الأمي - صلى الله عليه وسلم - كان نفسه برهانا من الله تعالى - أي حجة قطعية - على حقية دينه ، وأن كتابه القرآن العربي أنزل من العلم الإلهي عليه ، ولم يكن لعلمه الكسبي أن يأتي بمثله ، وإنما أنزل نورا مبينا إلى جميع الناس ، ليروا بتدبيره حقيقة دين الله الذي يسعدون به حياتهم الدنيا ، وينالون به في الآخرة ما هو خير وأبقى ; ولذلك قال :