ثم بعد هذا الاحتجاج انتقل إلى بيان بعض أحوال الذين كانوا في زمن التنزيل وقد غير الأسلوب هنا ، فإنه كان يحكي سيئاتهم مبتدئا بكلمة ( وإذ ) لأنه تذكير بما كان في الزمان الماضي ، والابتداء بكلمة ( إذا ) هنا هو المناسب في الحكاية عن حال واقعة في الحال مستمرة في الاستقبال ، والمراد من حكاية أحوال الحاضرين بيان أنها مساوية لأحوال سلفهم الغابرين ، وأنه لا يرجى من هؤلاء أفضل مما كان من أولئك ، قال : (
وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ليحاجوكم به عند ربكم أفلا تعقلون ) ؟ .
[ ص: 296 ] ترشد هذه الآية إلى طور من أطوار البشر في زمن الإصلاح ، وهي أن جماهير الناس يقعون في الحيرة بين الهداية الجديدة والتقاليد القديمة ، لا ينظرون إلى الحق فيتحروا اتباعه أين كان ، ولكنهم يفكرون في منفعتهم الخاصة ، يقولون : نخشى أن نجهر بالجديد فيخذل حزبه ويتفرق شمله فنكون من الخاسرين ، ولا نأمن إن بقينا على القديم أن يتقلص ظله ، ويذل أهله فنكون مع الضالين . فالحزم أن نوافق كل حزب نخلو به ، ونعتذر إلى الآخر إذا هو علم بما كان منا إلى أن نتبين الفوز في أحد الفريقين ، فيكونون هكذا مذبذبين ، كما قال الله - تعالى - : (
وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ) . . . إلخ .
الضمير في ( قالوا ) الثانية غير الضمير في ( قالوا ) الأولى كما هو ظاهر من السياق ولا لبس فيه ولا اشتباه ، ومثله مستفيض في كلام البلغاء ، وفي التنزيل أيضا كقوله - تعالى - : (
وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن ) ( 2 : 232 ) فإن المنهي عن العضل الأولياء لا المطلقون . والكلام في القرآن للمكلفين كافة ، فيوجه كل كلام إلى صاحبه الذي يتعين أن يكون له بقرينة الحال أو المقال . فإذا وجه الخطاب بالطلاق إلى الأزواج ؛ لأنه لا يكون إلا منهم ، فكذلك يوجه الخطاب بالنهي عن العضل - وهو منع المرأة من التزوج - إلى الأولياء ؛ لأنه لا يكون إلا منهم . وعلى هذه الطريقة يتخرج قوله : (
قالوا آمنا ) وقوله : (
قالوا أتحدثونهم ) فالكلام في مجموع
اليهود ، ويوجه الأول إلى الذين يلاقون المؤمنين ( والثاني ) إلى الذين يلاقيهم هؤلاء من قومهم ويعذلونهم على الإفضاء إلى المؤمنين بما فتح الله عليهم .
المراد بالفتح هنا : الإنعام بالشريعة والأحكام ، والبشارة بالنبي - صلى الله عليه وسلم - ، شبه الذي يعطى الشريعة بالمحصور يفتح عليه فيخرج من الضيق ، أو معنى (
بما فتح الله عليكم ) بما حكم به وأخذ به الميثاق عليكم من الإيمان بالنبي الذي يجيئكم مصدقا لما معكم ونصره ، وقوله : (
ليحاجوكم به عند ربكم ) معناه يقيمون به عليكم الحجة من كتاب ربكم وهو التوراة من حيث أن ما تحدثونهم به موافق لما في القرآن ، فلهم أن يقولوا : لولا أن
محمدا نبي لما علم بهذا الذي حكاه عنكم ، وقد كان مثلنا لا يعرف من أمر الكتاب شيئا . هذا ما جرى عليه المحققون في تفسير (
عند ربكم ) وهو أنه بمعنى في كتابه ، فهو كقوله في أهل الإفك (
فإذ لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون ) ( 24 : 13 ) أي في حكمه المبين في كتابه . وذهب مفسرنا (
الجلال ) إلى أن معناه المحاجة في الآخرة ، والنظم لا يأباه ، ولكن فيه اعترافا من اللائمين المؤنبين بأن المسلمين على الحق الذي لا ينجي عند الله سواه ، ومن اعتقد هذا لا يجعله تعليلا للإنكار على من يراه من قومه ، يحدث المؤمنين بما يوافقهم ويقوي حجتهم ، بل فيه أيضا أن ترك تحديثهم لا يمنعها في الآخرة .
[ ص: 297 ] مثل هذه الذبذبة تكون من الأمم في طور الضعف ولا سيما ضعف الإرادة والعلم ، ولو كان لأولئك القوم إرادة قوية لثبتوا ظاهرا على ما يعتقدونه باطلا ، ولم يصانعوا مخالفيهم من أهل الملة الأولى أو الملة الآخرة ، وقد وبخهم الله - تعالى - وأنكر عليهم هذا التلون والدهان في الدين ، ولقاء كل فريق بوجه يظهرون له ما يسرون من أمر الآخر ، فقال : (
أو لا يعلمون أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون ) يعني أيقول اللائمون أو المنافقون كلهم ما قالوا ، ويكتمون من صفات النبي - صلى الله عليه وسلم - ما كتموا ، ويحرفون من كتابهم ما حرفوا ، ولا يعلمون أن الله يعلم ما يسرون من كفر وكيد ، وما يعلنون من إظهار إيمان وود ، فإن كانوا مؤمنين بإحاطة علمه - تعالى - ، فلم لا يحفلون باطلاعه على ظواهرهم ، وإحاطته بما يجول في أطواء ضمائرهم ، وبما يترتب على علمه من خزي في الدنيا وعذاب في الآخرة .
قال - تعالى - : (
ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني وإن هم إلا يظنون )
ذلك الذي تقدم هو شأن علمائهم ، يحرفون كتاب الله ويخرجون من حكمه بالتأويل ، وهذا هو شأن عامتهم ، لا علم لهم بشيء من الكتاب ، ولا معرفة لهم بالأحكام ، وما عندهم من الدين فهو أماني يتمنونها وتجول صورها في خيالاتهم ، وهذه الصور هي كل ما عندهم من العلم بدينهم ، وما هم على بينة منها ، وإنما هي ظنون يلهون بها ، وهذا هو محل الذم لا مجرد كونهم أميين ، فإن الأمي قد يتلقى العلم عن العلماء الثقات ويعقله عنهم بدليله فيكون علمه صحيحا ، وهؤلاء لم يكونوا كذلك . فإن قيل : لم سمي ما كانوا عليه من الأماني ظنا مع أنهم أخذوه عن رؤساء دينهم الموثوق بهم عندهم وسلموه تسليما ، فلم يكن في نفوسهم ما يخالفه ، ومثل هذا يسمى اعتقادا وعلما ؟ نقول : إنما العلم بالدليل ولا يسمي مثل ذلك علما إلا من لا يعرف معنى العلم . على أنه لم يكن راجحا ومسلما إلا لأن مقابله لم يخطر ببالهم ، ولو أرد عليهم لتزلزل ما عندهم ثم زال ، أو ظهر فيه الشك وتطرق إليه الاحتمال ، ويصح أن يقال في مثل هؤلاء : إن الظن أو التردد كان نائما في نفوسهم ، وهو عرضة لأن يوقظه نقيضه ويذهب به متى طرأ ، ونوم الظن لا يصح أن يسمى اعتقادا .
قال الأستاذ الإمام : هذه الأماني توجد في كل الأمم في حال الضعف والانحطاط ، يفتخرون بما بين أيديهم من الشريعة ، وبسلفهم الذين كانوا مهتدين بها ، وبما لهم من الآثار التي كانت ثمرة تلك الهداية ، وتسول لهم الأماني أن ذلك كاف في نجاتهم وسعادتهم وفضلهم على سائر الناس . هكذا كان
اليهود في زمن التنزيل ، وقد اتبعنا سننهم وتلونا تلوهم ، فظهر فينا تأويل الحديث الصحيح ( (
nindex.php?page=hadith&LINKID=918624لتتبعن سنن من قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع ) ) وإننا نقرأ أخبارهم فنسخر منهم ولا نسخر من أنفسنا ، ونعجب لهم كيف رضوا بالأماني ، ونحن غارقون فيها !
[ ص: 298 ] ثم إن الآية تدل على بطلان التقليد وعدم الاعتداد بإيمان صاحبه ، وقد مضى على هذا إجماع الصدر الأول وأهل القرون الثلاثة ، وإنما كان الجاهل يأخذ عن العالم العقيدة ببرهانها ، والأحكام بروايتها ، ولا يتقلد رأيه كيفما كان من غير بينة ولا برهان ، وفسر بعضهم الأماني بالأكاذيب ابتداء ، ومنهم من فسرها بالقراءات ، أي أنهم لا حظ لهم من الكتاب إلا قراءة ألفاظه من غير فهم ولا اعتبار يظهر أثرهما في العمل ، فهو على حد (
مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا ) ( 62 : 5 ) وقد ورد التمني بمعنى القراءة ، ومنه قول الشاعر :
تمنى كتاب الله أول ليله تمني داود الزبور على رسل
وهذا النوع من التمني قد برز فيه المسلمون حتى سبقوا من قبلهم ، فقد أمسوا أكثر الأمم تلاوة لكتابهم ، وأقلهم فهما له واهتداء به .
قال الأستاذ الإمام : إنما يحسن تفسير هذه الآيات من كان على علم بتاريخ
اليهود في ذلك العصر ووقوف على حالهم ، وإن كانت إلا نسخة من حال بعض الشعوب الموجودين الآن . . .
كانوا أكثر الناس مراء وجدالا في الحق وإن كان بينا باهرا ، وأشد الناس كذبا وغرورا وأكلا لأموال الناس بالباطل كالربا الفاحش ، وغشا وتدليسا وتلبيسا ، وكانوا مع ذلك يعتقدون أنهم شعب الله الخاص وأفضل الناس كما يعتقد أشباههم في هذا الزمان ، فهذه هي الأماني التي صدتهم عن قبول الإسلام .
وأما اللفظ والنظم ففيه أن قوله - تعالى - : (
إلا أماني ) استثناء منقطع ، والعلم المنفي قاصر لا يشمل الأماني ، ويصح أن يكون متعديا ، والآية على حد قولهم : ما علمت فلانا إلا فاضلا ، ويكون المعنى أنهم إنما يعلمون من الكتاب أنه مجموعة أماني يمنونها أنفسهم ، فهم لا يأخذون منه إلا ما هو لهم ويمدهم في غرورهم ، وأما ما ينبههم على سيئات أعمالهم فكأنه غير معروف لهم من الكتاب .