1. الرئيسية
  2. تفسير المنار
  3. سورة المائدة
  4. تفسير قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا
صفحة جزء
( ياأيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين وكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون ) .

بدأ الله تعالى هذه السورة بآيات من أحكام الحلال والحرام والنسك ، ومنها حل طعام أهل الكتاب والتزوج منهم ، وأحكام الطهارة والعدل ، ولو في الأعداء المبغضين ، ثم جاء بهذا السياق الطويل في بيانأهل الكتاب ومحاجتهم ، فكان أوفى وأتم ما ورد في القرآن من ذلك ، ولم يتخلله إلا قليل من آيات الأحكام والوعود والعظات بينا مناسبتها له في مواضعها ، وهذه الآيات عود إلى أحكام الحلال والحرام والنسك التي بدئت بها السورة ، ويتلوها العود إلى محاجة أهل الكتاب كما علمت ، فمجموع آيات السورة ، في هذين الموضوعين ، وإنما لم تجعل آيات الأحكام كلها في أول السورة ، وتجعل الآيات في أهل الكتاب متصلا بعضها ببعض في باقيها لما بيناه غير مرة في حكمة مزج المسائل والموضوعات في القرآن من حيث هو مثاني تتلى دائما للاهتداء بها ، لا كتابا فنيا ولا قانونا يتخذ لأجل مراجعة كل مسألة من كل طائفة من المعاني في باب معين .

على أن في نظمه وترتيب آيه من المناسبة بين المسائل المختلفة ما يدهش أصحاب الأفهام الدقيقة بحسنه وتناسقه ، كما ترى في مناسبة هذه الآيات لما قبلها مباشرة ، زائدا على ما علمت آنفا من مناسبتها لمجموع ما تقدمها من أول السورة إلى هنا .

ذلك أنه تعالى ذكر أن النصارى أقرب الناس مودة للذين آمنوا ، وذكر من سبب ذلك أن منهم قسيسين ورهبانا ، فكان من مقتضى هذا أن يرغب المؤمنون في الرهبانية ويظن الميالون للتقشف والزهد أنها مرتبة كمال تقربهم إلى الله تعالى ، وهي إنما تتحقق بتحريم التمتع بالطيبات طبعا من اللحوم والأدهان والنساء ، إما دائما كامتناع الرهبان من [ ص: 17 ] الزواج البتة ، وإما في أوقات معينة كأنواع الصيام التي ابتدعوها ، وقد أنزل الله تعالى هذا الظن ، وقطع طريق تلك الرغبة بقوله عز من قائل :

( يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا ) أي لا تحرموا على أنفسكم ما أحل الله لكم من الطيبات المستلذة بأن تتعمدوا ترك التمتع بها تنسكا وتقربا إليه تعالى ، ولا تعتدوا فيها بتجاوز حد الاعتدال إلى الإسراف الضار بالجسد ، كالزيادة على الشبع والري فهو تفريط ، أو تجاوز الأخلاق والآداب النفسية ، كجعل التمتع بلذاتها أكبر همكم ، أو شاغلا لكم عن معاني الأمور من العلوم والأعمال النافعة لكم ولأمتكم ، وهذا معنى قوله : ( وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين ) ( 7 : 31 ) أو ولا تعتدوها هي أي الطيبات المحللة ، بتجاوزها إلى الخبائث المحرمة ، فالاعتداء يشمل الأمرين : الاعتداء في الشيء نفسه ، واعتداء هو يتجاوزه إلى غيره مما ليس من جنسه ، وقد حذف المفعول في الآية فلم يقل فلا تعتدوا فيها أو فلا تعتدوها كما قال : ( تلك حدود الله فلا تعتدوها ) ( 2 : 229 ) ليشمل الأمرين ، اعتداء الطيبات نفسها إلى الخبائث ، والاعتداء فيها بالإسراف ، لأن حذف المعمول يفيد العموم ، ثم علل النهي بما ينفر عنه فقال : .

( إن الله لا يحب المعتدين ) الذين يتجاوزون حدود شريعته ، وسنن فطرته ولو بقصد عبادته ، وتحريم الطيبات المحللة قد يكون بالفعل ، من غير التزام بيمين ولا نذر ، وقد يكون بالتزام وكلاهما غير جائز ، والالتزام قد يكون لأجل رياضة النفس وتهذيبها بالحرمان من الطيبات ، وقد يكون لإرضاء بادرة غضب ، بإغاظة زوجة أو والد أو ولد ، كمن يحلف بالله أو بالطلاق أنه لا يأكل من هذا الطعام ( ومثله ما في معناه من المباحات ) أو يلتزم ذلك بغير الحلف والنذر من المؤكدات ، ومن هذا الصنف من يقول : إن فعل كذا فهو بريء من الإسلام ، أو من الله ورسوله ، وكل ذلك معلوم ولا يحرم على أحد شيء يحرمه على نفسه بهذه الأقوال ، وفي الأيمان وكفارتها خلاف بين العلماء سيأتي بيانه .

وأما ترك الطيبات البتة كما تترك المحرمات ولو بغير نذر ولا يمين تنسكا وتعبدا لله تعالى بتعذيب النفس وحرمانها ، فهو محل شبهة فتن بها كثير من العباد والمتصوفة ، فكان من بدعهم التركية ، التي تضاهي بدعهم العملية ، وقد اتبعوا فيها سنن من قبلهم شبرا بشبر وذراعا بذراع; كعبادة بني إسرائيل ورهبان النصارى ، وهؤلاء أخذوها عن بعض الوثنيين; كالبراهمة الذين يحرمون جميع اللحوم ، ويزعمون أن النفس لا تزكو ولا تكمل إلا بحرمان الجسد من اللذات ، وقهر الإرادة بمشاق الرياضات ، وكانوا يحرمون الزينة كما يحرمون النعمة ، فيعيشون عراة الأجسام ولا يستعلمون الأواني لأطعمتهم; [ ص: 18 ] بل يستغنون عنها بورق الشجر ، وقد أرجعهم انتشار الإسلام في الهند عن بعض ذلك ، ولا يزال الجم الغفير منهم يمشون في الأسواق والشوارع عراة ليس على أبدانهم إلا ما يستر السوءتين فقط ، ويعبرون عن ذلك بكلمة " السبيلين " العربية التي يستعملها الفقهاء لأنهم أخذوها كما يظهر عن المسلمين الذين كانوا يجبرونهم على ستر عوراتهم ، ومنهم من يشد في وسطه إزارا بكيفية يرى بها باطن فخذه ، والرجال والنساء في قلة الستر سواء ، فترى النساء في أسواق المدن مكشوفات البطون والظهور والسوق والأفخاذ ، ومنهن من تضع على عاتقها ملحفة تستر شطر بدنها الأعلى ويبقى الجانب الآخر مكشوفا .

وجملة القول أن تحريم الطيبات والزينة وتعذيب النفس من العبادات المأثورة عن قدماء الهنود فاليونان ، وقلدهم فيها أهل الكتاب ولا سيما النصارى ، فإنهم على تفصيهم من شريعة التوراة الشديدة الوطأة ، وعلى إباحة مقدسهم وإمامهم بولس لهم جميع ما يؤكل وما يشرب ، إلا الدم المسفوح وما ذبح للأصنام ، قد شددوا على أنفسهم وحرموا عليها ما لم تحرمه الكتب المقدسة عندهم ، وعلى ما فيها من الشدة والمبالغة في الزهد .

ثم أرسل الله تعالى خاتم النبيين ، والمرسلين بالإصلاح الأعظم ، فأباح للبشر على لسانه الزينة والطيبات ، ووضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم ، وأرشدهم إلى إعطاء البدن حقه والروح حقها ، لأن الإنسان مركب من روح وجسد ، فيجب عليه العدل بينهما ، وهذا هو الكمال البشري ، فكانت الأمة الإسلامية بذلك أمة وسطا صالحة للشهادة على جميع الأمم وأن تكون حجة الله عليها ، كما تقدم بيان ذلك في أول الجزء الثاني من هذا التفسير ، وبذلك كانت جديرة بالبحث عن أسرار الخلق ومنافعه ، وتسخيره قوى الأرض والجو للتمتع بنعم الله فيها مع الشكر عليها ، ولكنها قصرت في ذلك ثم انقطعت من السير في طريقه بعد أن قطع سلفها شرطا واسعا فيه .

ولما كان حب المبالغة والغلو في دأب البشر وشنشنتهم في كل شئونهم ، ما من شيء إلا ويوجد من يميل إلى الإفراط فيه ، كما يوجد من يميل إلى التفريط ، استشار بعض الصحابة رضي الله عنهم نبي الرحمة صلى الله عليه وآله وسلم في تحريم الطيبات والنساء على أنفسهم ، وتركها بعضهم من غير استشارة ، اشتغالا عنها بصيام وقيام الليل ، فنهاهم عن ذلك ، وأنزل الله تعالى هذه الآية وما في معناها من الآيات ، في تحريم الخبائث ، والمنة بحل الطيبات ، وبين ذلك الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله وفعله أحسن البيان .

وإننا نذكر هنا بعض الأخبار والآثار المروية في ذلك لتكون حجة على أهل الغلو في هذا الدين ، الذين تركوا هدايته السمحة إلى تشديد الغابرين ، وصاروا يعدون زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الزرق خاصة بالكافرين ، حتى كأن المشارك لهم فيها خارج [ ص: 19 ] عن هدى المؤمنين ، وهاك ما ورد في هذه الآية من التفسير المأثور ، وسيأتي في تفسير سورة الأعراف وغيرها ما يزيدك نورا على نور .

وأخرج الترمذي وحسنه وابن جرير وابن أبي حاتم وابن عدي في الكامل والطبراني وابن مردويه عن ابن عباس أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : " يا رسول الله إني إذا أكلت اللحم انتشرت للنساء ، وأخذتني شهوتي ، وإني حرمت على نفسي اللحم " .

فنزلت (
يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم
) .

وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس في قوله : ( يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ) قال : " نزلت الآية في رهط من الصحابة قالوا : نقطع مذاكيرنا ونترك شهوات الدنيا ونسيح في الأرض كما تفعل الرهبان ، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فأرسل إليهم فذكر لهم ذلك فقالوا : نعم ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : لكني أصوم وأفطر ، وأصلي وأنام ، وأنكح النساء ، فمن أخذ بسنتي فهو مني ، ومن لم يأخذ بسنتي فليس مني " .

وأخرج عبد بن حميد وأبو داود في مراسيله وابن جرير عن أبي مالك في قوله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ) . قال : نزلت في عثمان بن مظعون وأصحابه ، كانوا حرموا على أنفسهم كثيرا من الشهوات والنساء وهم بعضهم أن يقطع ذكره فنزلت هذه الآية .

وأخرج البخاري ومسلم عن عائشة : " أن ناسا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم سألوا أزواج النبي صلى الله عليه وسلم عن عمله في السر ، فقال بعضهم : لا آكل اللحم ، وقال بعضهم : لا أتزوج النساء ، وقال بعضهم : لا أنام على فراش ، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال : ما بال أقوام يقول أحدهم كذا وكذا ؟ لكني أصوم وأفطر وأنام وأقوم وآكل اللحم وأتزوج النساء ، فمن رغب عن سنتي فليس مني " .

وأخرج البخاري ومسلم وابن أبي شيبة والنسائي وابن أبي حاتم وابن حبان والبيهقي في سننه وأبو الشيخ وابن مردويه عن ابن مسعود قال : " كنا نغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس معنا نساء فقلنا : ألا نستخصي ؟ فنهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك [ ص: 20 ] ورخص لنا أن ننكح المرأة بالثوب إلى أجل ثم قرأ عبد الله : ( ياأيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين ) .

وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر عن أبي قلابة ، قال : أراد الناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرفضوا الدنيا ويتركوا النساء ويترهبوا فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فغلظ فيهم المقالة ثم قال : " إنما هلك من كان قبلكم بالتشديد ، شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم ، فأولئك بقاياهم في الديار والصوامع ، فاعبدوا الله ولا تشركوا به ، وحجوا واعتمروا واستقيموا يستقم بكم " قال : ونزلت فيهم ( يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ) الآية .

وأخرج عبد الرزاق وابن جرير عن قتادة في قوله : ( لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ) قال : نزلت في أناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أرادوا أن يتخلوا عن الدنيا ويتركوا النساء ويتزهدوا ، منهم علي بن أبي طالب وعثمان بن مظعون .

وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة في قوله : ( يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ) قال : ذكر لنا أن رجالا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رفضوا النساء واللحم ، أرادوا أن يتخذوا الصوامع ، فلما بلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ليس في ديني ترك النساء واللحم ولا اتخاذ الصوامع " وخبرنا : " أن ثلاثة نفر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم اتفقوا ، فقال أحدهم : أما أنا فأقوم الليل لا أنام ، وقال أحدهم : أما أنا فأصوم النهار فلا أفطر ، وقال الآخر : أما أنا فلا آتي النساء ، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم فقال : ألم أنبأ أنكم اتفقتم على كذا وكذا ؟ قالوا : بلى يا رسول الله وما أردنا إلا الخير قال : لكني أقوم وأنام وأصوم وأفطر وآتي النساء; فمن رغب عن سنتي فليس مني ، وكان في بعض القراءة في الحرف الأول : من رغب عن سنتك فليس من أمتك وقد ضل سواء السبيل " . [ ص: 21 ] وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير عن أبي عبد الرحمن قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : " لا آمركم أن تكونوا قسيسين ورهبانا " .

وأخرج ابن جرير عن السدي قال : " إن رسول الله صلى الله عليه وسلم جلس يوما فذكر الناس ، ثم قام ولم يزدهم على التخويف ، فقال ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا عشرة; منهم علي بن أبي طالب وعثمان بن مظعون : ما حقنا إن لم نحدث عملا ؟ فإن النصارى قد حرموا على أنفسهم فنحن نحرم ، فحرم بعضهم أكل اللحم والودك وأن يأكل بالنهار ، وحرم بعضهم النوم ، وحرم بعضهم النساء ، فكان عثمان بن مظعون ممن حرم النساء وكان لا يدنو من أهله ولا يدنون منه ، فأتت امرأته عائشة وكان يقال لها الحولاء فقالت عائشة ومن حولها من نساء النبي صلى الله عليه وسلم : ما لك يا حولاء متغيرة اللون لا تمتشطين ولا تتطيبين ؟ فقالت : وكيف أتطيب وأمتشط وما وقع علي زوجي ، ولا رفع عني ثوبا منذ كذا وكذا ، فجعلن يضحكن من كلامها ، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم وهن يضحكن فقال : ما يضحككن ؟ قالت : يا رسول الله الحولاء سألتها عن أمرها فقالت : ما رفع عني زوجي ثوبا منذ كذا وكذا ، فأرسل إليه فدعاه فقال : ما بالك يا عثمان ؟ قال : إني تركته لله لكي أتخلى للعبادة ، وقص عليه أمره ، وكان عثمان قد أراد أن يجب نفسه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أقسمت عليك إلا رجعت فواقعت أهلك ، فقال : يا رسول الله إني صائم ، قال : أفطر قال فأفطر وأتى أهله ، فرجعت الحولاء إلى عائشة وقد اكتحلت وامتشطت وتطيبت فضحكت عائشة فقالت : ما بالك يا حولاء ؟ فقالت : إنه أتاها أمس ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما بال أقوام حرموا النساء والطعام والنوم ؟ ألا إني أنام وأقوم وأفطر وأصوم وأنكح النساء ، فمن رغب عن سنتي فليس مني ، فنزلت ( ياأيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا ) يقول لعثمان : " لا تجب نفسك فإن هذا هو الاعتداء " وأمرهم أن يكفروا أيمانهم فقال : ( لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ) الآية .

وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن مجاهد قال : أراد رجال منهم عثمان بن مظعون وعبد الله بن عمرو أن يتبتلوا ويخصوا أنفسهم ويلبسوا المسوح فنزلت ( يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ) الآية التي بعدها .

وأخرج ابن جرير وابن المنذر وأبو الشيخ عن عكرمة أن عثمان بن مظعون وعلي بن [ ص: 22 ] أبي طالب وابن مسعود والمقداد بن الأسود وسالما مولى أبي حذيفة وقدامة تبتلوا ، فجلسوا في البيوت واعتزلوا النساء ولبسوا المسوح وحرموا طيبات الطعام واللباس إلا ما يأكل ويلبس أهل السياحة من بني إسرائيل ، وهموا بالاختصاء وأجمعوا لقيام الليل وصيام النهار فنزلت ( يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ) الآية ، فلما نزلت بعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " إن لأنفسكم حقا وإن لأعينكم حقا وإن لأهلكم حقا ، فصلوا وناموا ، وصوموا وأفطروا ، فليس منا من ترك سنتنا ، فقالوا : اللهم صدقنا واتبعنا ما أنزلت مع الرسول " .

وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن زيد بن أسلم " أن عبد الله بن رواحة ضافه ضيف من أهله وهو عند النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم رجع إلى أهله فوجدهم لم يطعموا ضيفهم انتظارا له ، فقال لامرأته : حبست ضيفي من أجلي ؟ هو حرام علي ، فقالت امرأته : هو علي حرام ، قال الضيف : هو علي حرام ، فلما رأى ذلك وضع يده وقال : كلوا بسم الله ، ثم ذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : قد أصبت " فأنزل الله : ( يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم )

وأخرج البخاري والترمذي والدارقطني عن أبي جحيفة قال : " آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين سلمان وأبي الدرداء ، فرأي أم الدرداء متبذلة فقال لها ما شأنك قالت أخوك أبو الدرداء ليس له حاجة في الدنيا فجاء أبو الدرداء فصنع له طعاما فقال : كل فإني صائم ، قال : ما أنا بآكل حتى تأكل فأكل فلما كان الليل ذهب أبو الدرداء يقوم ، قال : نم ، فنام ثم ذهب يقوم فقال : نم ، فلما كان آخر الليل قال سلمان : قم الآن ، قال : فصليا ، فقال له سلمان : إن لربك عليك حقا ولنفسك عليك حقا ولأهلك عليك حقا فأعط كل ذي حق حقه ، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له فقال النبي صلى الله عليه وسلم : صدق سلمان " .

وأخرج البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ألم أخبر أنك تصوم النهار وتقوم الليل ؟ قلت : بلى يا رسول الله قال : فلا تفعل; صم وأفطر ، وقم ونم ، فإن لجسدك عليك حقا ، إن لعينك عليك حقا ، وإن لزوجك عليك حقا ، وإن لزورك عليك حقا ، وإن بحسبك أن تصوم من كل شهر ثلاثة أيام ، فإن لك بكل حسنة عشر أمثالها ، فإن ذلك صيام الدهر كله قلت : [ ص: 23 ] إني أجد قوة ، قال : فصم صيام نبي الله داود عليه قلت : وما كان صيام نبي الله داود ؟ قال : نصف الدهر " .

نقلنا هذه الأخبار والآثار من الدر المنثور وتركنا بعض الروايات في معناها ، وفيما ذكرناه الموقوف والمرفوع والصحيح والضعيف ، ومجموعها حجة لا نزاع فيها .

فإن قيل : عن المأثور عن الخلفاء الراشدين أبي بكر وعمر وعلي رضي الله عنهم وعن غيرهم من كبار الصحابة والتابعين أنهم كانوا في غاية التقشف ، وتعمد ترك الطيبات من الطعام والشراب وكذا اللباس الحسن ، فكيف تركوا ما زعمت أنه الأفضل من إعطاء البدن حقه كإعطاء الروح حقها بالتمتع بالطيبات من غير إسراف ؟ فالجواب أن المأثور عن أهل اليسار من الصحابة أنهم كانوا كما ذكرنا ، وأهل الإقفار حالهم معلوم ، والله تعالى يقول : ( لينفق ذو سعة من سعته ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله ) ( 65 : 7 ) الآية . وأما الخلفاء الثلاثة فكانوا يتعمدون التقشف ليكونوا قدوة لعمالهم ولسائر الفقراء والضعفاء ، وقد كان المفروض لأبي بكر وعمر رضي الله عنهما في بيت المال قدر المفروض لأوساط المهاجرين ، لا لأعلامهم ، كآل بيت الرسول عليه السلام ولا لأدناهم كالموالي ولا حجة فيمن بعدهم ، فالصوفية والزهاد يتبعون ما نقل عن بعض الصحابة والتابعين من التقشف ، ويزعمون أن مقتضى الدين الإسلامي أن يكن الناس كلهم كذلك ، كما أن أهل السعة والترف يجمعون ما نقل عن موسري السلف من التوسع في المباحات ، ويجعلونه حجة لإسرافهم ، وخير الأمور الوسط ، فراجع تفسير قوله تعالى : ( وكذلك جعلناكم أمة وسطا ) ( 2 : 143 ) والقاعدة العامة قوله تعالى في وصف خيار هذه الأمة الوسط : ( والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما ) ( 25 : 67 ) .

التالي السابق


الخدمات العلمية