لله ما في السماوات وما في الأرض وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء والله على كل شيء قدير
قوله :
لله ما في السماوات وما في الأرض قد تقدم تفسيره .
قوله :
وإن تبدوا ما في أنفسكم إلى آخر الآية ، ظاهره أن الله يحاسب العباد على ما أضمرته أنفسهم أو أظهرته من الأمور التي يحاسب عليها ، فيغفر لمن يشاء منهم ما يغفره منها ، ويعذب من يشاء منهم بما أسر أو أظهر منها ، هذا معنى الآية على مقتضى اللغة العربية .
وقد اختلف أهل العلم في هذه الآية على أقوال : الأول : أنها وإن كانت عامة ، فهي مخصوصة بكتمان الشهادة ، وأن الكاتم للشهادة يحاسب على كتمه سواء أظهر للناس أنه كاتم للشهادة أو لم يظهر .
وقد روي هذا عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس وعكرمة nindex.php?page=showalam&ids=14577والشعبي ومجاهد ، وهو مردود بما في الآية من عموم اللفظ ، ولا يصلح ما تقدم قبل هذه الآية من النهي عن
كتم الشهادة أن تكون مختصة به .
والقول الثاني : أن ما في الآية مختص بما يطرأ على النفوس من الأمور التي هي بين الشك واليقين ، قاله
مجاهد ، وهو أيضا تخصيص بلا مخصص .
والقول الثالث : أنها محكمة عامة ، ولكن العذاب على ما في النفس يختص بالكفار والمنافقين .
حكاه
nindex.php?page=showalam&ids=16935الطبري عن قوم ، وهو أيضا تخصيص بلا مخصص ، فإن قوله :
يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء لا يختص ببعض معين إلا بدليل .
والقول الرابع : أن هذه الآية منسوخة ، قاله
nindex.php?page=showalam&ids=10ابن مسعود وعائشة nindex.php?page=showalam&ids=3وأبو هريرة nindex.php?page=showalam&ids=14577والشعبي وعطاء nindex.php?page=showalam&ids=16972ومحمد بن سيرين nindex.php?page=showalam&ids=14980ومحمد بن كعب وموسى بن عبيدة ، وهو مروي عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس وجماعة من الصحابة والتابعين ، وهذا هو الحق لما سيأتي من التصريح بنسخها ، ولما ثبت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم :
nindex.php?page=hadith&LINKID=1019716إن الله غفر لهذه الأمة ما حدثت به أنفسها .
قوله :
يحاسبكم به الله قدم الجار والمجرور على الفاعل لإظهار العناية به ، وقدم الإبداء على الإخفاء ؛ لأن الأصل في الأمور التي يحاسب عليها هو الأعمال البادية ، وأما تقديم الإخفاء في قوله سبحانه :
قل إن تخفوا ما في صدوركم أو تبدوه يعلمه الله [ آل عمران : 29 ] فلكون العلم يتعلق بالأعمال الخافية والبادية على السوية ، وقدم المغفرة على التعذيب لكون رحمته سبقت غضبه ، وجملة قوله :
فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء مستأنفة ، أي فهو يغفر ، وهي متضمنة لتفصيل ما أجمل في قوله :
يحاسبكم به الله وهذا على قراءة
ابن عامر وعاصم .
وأما على قراءة
ابن كثير ونافع وأبي عمرو وحمزة nindex.php?page=showalam&ids=15080والكسائي بجزم الراء والباء ، فالفاء عاطفة لما بعدها على المجزوم قبلها ، وهو جواب الشرط ، أعني قوله :
يحاسبكم به الله .
وقرأ
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس nindex.php?page=showalam&ids=13723والأعرج وأبو العالية وعاصم الجحدري بنصب الراء والباء في قوله : " فيغفر " " ويعذب " على إضمار " أن " عطفا على المعنى .
وقرأ
nindex.php?page=showalam&ids=16258طلحة بن مصرف " يغفر " بغير فاء على البدل ، وبه قرأ
الجعفي وخلاد .
وقد أخرج
أحمد ومسلم وأبو داود في ناسخه
nindex.php?page=showalam&ids=16935وابن جرير وابن المنذر nindex.php?page=showalam&ids=16328وابن أبي حاتم عن
nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=1019717لما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : لله ما في السماوات وما في الأرض وإن تبدوا ما في أنفسكم الآية ، اشتد ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأتوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثم جثوا على الركب ، فقالوا : يا رسول الله كلفنا من الأعمال ما نطيق ، الصلاة والصيام والجهاد والصدقة ، وقد أنزل الله عليك هذه الآية ولا نطيقها ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم : سمعنا وعصينا ، بل قولوا : سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير [ البقرة : 285 ] فلما اقترأها القوم وذلت بها ألسنتهم أنزل الله في أثرها آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه [ البقرة : 285 ] الآية ، فلما فعلوا ذلك نسخها الله فأنزل لا يكلف الله نفسا إلا وسعها [ البقرة : 286 ] إلى آخرها .
وأخرج
أحمد ومسلم nindex.php?page=showalam&ids=13948والترمذي nindex.php?page=showalam&ids=15397والنسائي nindex.php?page=showalam&ids=13478وابن ماجه nindex.php?page=showalam&ids=16935وابن جرير وابن المنذر والحاكم والبيهقي عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس مرفوعا نحوه ، وزاد : فأنزل الله
ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا [ البقرة : 286 ] قال : قد فعلت .
ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا [ البقرة : 286 ] قال : قد فعلت .
ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به [ البقرة : 286 ] قال : قد فعلت
واعف عنا واغفر لنا وارحمنا [ البقرة : 286 ] الآية ، قال : قد فعلت .
وقد رويت هذه القصة عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس من طرق .
وأخرج
nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري والبيهقي عن
nindex.php?page=showalam&ids=17063مروان الأصفر عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم أحسبه
nindex.php?page=showalam&ids=12ابن عمر وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه قال : نسختها الآية التي بعدها .
وأخرج
nindex.php?page=showalam&ids=16298عبد بن حميد nindex.php?page=showalam&ids=13948والترمذي عن علي نحوه .
وأخرج
nindex.php?page=showalam&ids=16000سعيد بن منصور nindex.php?page=showalam&ids=16935وابن جرير nindex.php?page=showalam&ids=14687والطبراني عن
nindex.php?page=showalam&ids=10ابن مسعود نحوه .
وأخرج
nindex.php?page=showalam&ids=16935ابن جرير عن
عائشة نحوه أيضا .
وبمجموع ما تقدم يظهر لك ضعف ما أخرجه
nindex.php?page=showalam&ids=16000سعيد بن منصور nindex.php?page=showalam&ids=16935وابن جرير وابن المنذر nindex.php?page=showalam&ids=16328وابن أبي حاتم عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس في هذه الآية أنه قال : نزلت في كتمان الشهادة فإنها لو كانت كذلك لم يشتد الأمر على الصحابة .
وعلى كل حال فبعد هذه الأحاديث المصرحة بالنسخ والناسخ لم يبق مجال لمخالفتها ، ومما يؤيد ذلك ما ثبت في الصحيحين والسنن الأربع من حديث
nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :
nindex.php?page=hadith&LINKID=1019718إن الله تجاوز لي عن أمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تتكلم أو تعمل به .
وأخرج
nindex.php?page=showalam&ids=16935ابن جرير عن
عائشة قالت : كل عبد هم بسوء ومعصية وحدث نفسه به حاسبه الله في
[ ص: 197 ] الدنيا يخاف ويحزن ويشتد همه لا يناله من ذلك شيء كما هم بالسوء ولم يعمل منه بشيء .
وأخرج
nindex.php?page=showalam&ids=16000سعيد بن منصور nindex.php?page=showalam&ids=16935وابن جرير عنها نحوه ، والأحاديث المتقدمة المصرحة بالنسخ تدفعه .
وأخرج
nindex.php?page=showalam&ids=16935ابن جرير عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس قال : إن الله يقول يوم القيامة : إن كتابي لم يكتبوا من أعمالكم إلا ما ظهر منها ، فأما ما أسررتم في أنفسكم فأنا أحاسبكم به اليوم فأغفر لمن شئت وأعذب من شئت ، وهو مدفوع بما تقدم .