يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا ودوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر قد بينا لكم الآيات إن كنتم تعقلون هاأنتم أولاء تحبونهم ولا يحبونكم وتؤمنون بالكتاب كله وإذا لقوكم قالوا آمنا وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل من الغيظ قل موتوا بغيظكم إن الله عليم بذات الصدور إن تمسسكم حسنة تسؤهم وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئا إن الله بما يعملون محيط
البطانة : مصدر يسمى به الواحد والجمع ، وبطانة الرجل : خاصته الذين يستبطنون أمره ، وأصله البطن الذي هو خلاف الظهر ، وبطن فلان بفلان يبطن بطونا وبطانة : إذا كان خالصا به ، ومنه قول الشاعر :
وهم خلصائي كلهم وبطانتي وهم عيبتي من دون كل قريب
قوله : من دونكم أي : من سواكم قاله
الفراء ; أي : من دون المسلمين وهم الكفار ; أي : بطانة كائنة من دونكم ، ويجوز أن يتعلق بقوله : لا تتخذوا .
وقوله :
لا يألونكم خبالا في محل نصب صفة البطانة ، يقال : لا ألوك جهدا ; أي : لا أقصر . قال
امرؤ القيس :
وما المرء ما دامت حشاشة نفسه بمدرك أطراف الخطوب ولا آل
والمراد لا يقصرون فيما فيه الفساد عليكم ، وإنما عدي إلى مفعولين لكونه مضمنا معنى المنع ; أي : لا يمنعوكم خبالا ، والخبال والخبل : الفساد في الأفعال والأبدان والعقول .
قال
أوس :
أبني لبينى لستم بيد إلا يدا مخبولة العضد
أي فاسدة العضد . قوله :
ودوا ما عنتم ما مصدرية ; أي : ودوا عنتكم ، والعنت المشقة وشدة الضرر .
والجملة مستأنفة مؤكدة للنهي . قوله :
قد بدت البغضاء هي شدة البغض كالضراء لشدة الضر .
والأفواه جمع فم . والمعنى : أنها قد ظهرت البغضاء في كلامهم لأنهم لما خامرهم من شدة البغض والحسد أظهرت ألسنتهم ما في صدورهم ، فتركوا التقية وصرحوا بالتكذيب .
أما
اليهود فالأمر في ذلك واضح . وأما المنافقون فكان يظهر من فلتات ألسنتهم ما يكشف عن خبث طويتهم .
وهذه الجملة مستأنفة لبيان حالهم
وما تخفي صدورهم أكبر لأن فلتات اللسان أقل مما تجنه الصدور ، بل تلك الفلتات بالنسبة إلى ما في الصدور قليلة جدا . ثم إنه سبحانه امتن عليهم ببيان الآيات الدالة على وجوب الإخلاص إن كانوا من أهل العقول المدركة لذلك البيان .
قوله :
ها أنتم أولاء جملة مصدرة بحرف التنبيه ; أي : أنتم أولاء الخاطئون في موالاتهم ، ثم بين خطأهم بتلك الموالاة بهذه الجملة التذييلية . فقال :
تحبونهم ولا يحبونكم ، وقيل : إن قوله : تحبونهم خبر ثان لقوله أنتم ، وقيل : إن أولاء موصول وتحبونهم صلته أي : تحبونهم لما أظهروا لكم الإيمان أو لما بينكم وبينهم من القرابة ولا يحبونكم لما قد استحكم في صدورهم من الغيظ والحسد .
قوله :
وتؤمنون بالكتاب كله أي بجنس الكتاب جميعا . ومحل الجملة النصب على الحال ; أي : لا يحبونكم والحال أنكم مؤمنون بكتب الله سبحانه التي من
[ ص: 241 ] جملتها كتابهم ، فما بالكم تحبونهم وهم لا يؤمنون بكتابكم .
وفيه توبيخ لهم شديد ; لأن من بيده الحق أحق بالصلابة والشدة ممن هو على الباطل .
وإذا لقوكم قالوا آمنا نفاقا وتقية
وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل من الغيظ تأسفا وتحسرا ، حيث عجزوا عن الانتقام منكم .
والعرب تصف المغتاظ والنادم بعض الأنامل والبنان ، ثم أمره الله سبحانه بأن يدعو عليهم ، فقال :
قل موتوا بغيظكم وهو يتضمن استمرار غيظهم ما داموا في الحياة حتى يأتيهم الموت وهم عليه ، ثم قال :
إن الله عليم بذات الصدور فهو يعلم ما في صدوركم وصدورهم ، والمراد بذات الصدور : الخواطر القائمة بها ، وهو كلام داخل تحت قوله : قل فهو من جملة المقول .
قوله :
إن تمسسكم حسنة تسؤهم هذه الجملة مستأنفة لبيان تناهي عداوتهم ، وحسنة وسيئة يعمان كل ما يحسن وما يسوء . وعبر بالمس في الحسنة وبالإصابة في السيئة ، للدلالة على أن مجرد مس الحسنة يحصل به المساءة ، ولا يفرحون إلا بإصابة السيئة ، وقيل : إن المس مستعار لمعنى الإصابة . ومعنى الآية : أن من كانت هذه حالته لم يكن أهلا لأن يتخذ بطانة وإن تصبروا على عداوتهم أو على التكاليف الشاقة وتتقوا موالاتهم ، أو ما حرمه الله عليكم
لا يضركم كيدهم شيئا ، يقال : ضاره يضوره ويضيره ضيرا وضيورا : بمعنى ضره يضره ، وبه قرأ
نافع وابن كثير وأبو عمرو .
وقرأ الكوفيون
وابن عامر ( لا يضركم ) بضم الراء وتشديدها من ضر يضر ، فهو على القراءة الأولى مجزوم على أنه جواب الشرط ، وعلى القراءة الثانية مرفوع على تقدير إضمار الفاء كما في قول الشاعر :
من يفعل الحسنات الله يشكرها
قاله
nindex.php?page=showalam&ids=15080الكسائي nindex.php?page=showalam&ids=14888والفراء ، وقال
nindex.php?page=showalam&ids=16076سيبويه : إنه مرفوع على نية التقديم ; أي : لا يضركم أن تصبروا . وحكى
أبو زيد عن
المفضل عن
عاصم ( لا يضركم ) بفتح الراء ، وشيئا صفة مصدر محذوف .
وقد أخرج
nindex.php?page=showalam&ids=12563ابن إسحاق nindex.php?page=showalam&ids=16935وابن جرير وابن المنذر nindex.php?page=showalam&ids=16328وابن أبي حاتم عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس قال : كان رجال من
المسلمين يواصلون رجالا من يهود لما كان بينهم من الجوار والحلف في الجاهلية ، فأنزل الله فيهم ينهاهم عن مباطنتهم لخوف الفتنة عليهم منهم
ياأيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة الآية . وأخرج
nindex.php?page=showalam&ids=16935ابن جرير nindex.php?page=showalam&ids=16328وابن أبي حاتم عنه قال : هم المنافقون .
وأخرج
nindex.php?page=showalam&ids=16298عبد بن حميد عن
مجاهد نحوه . وأخرج
nindex.php?page=showalam&ids=16328ابن أبي حاتم nindex.php?page=showalam&ids=14687والطبراني عن
أبي أمامة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : هم
الخوارج .
قال
السيوطي : وسنده جيد . وأخرج
nindex.php?page=showalam&ids=12563ابن إسحاق nindex.php?page=showalam&ids=16935وابن جرير وابن المنذر عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس في قوله :
وتؤمنون بالكتاب كله أي : بكتابكم وبكتابهم وبما مضى من الكتب قبل ذلك ، وهم يكفرون بكتابكم ، فأنتم أحق بالبغضاء لهم منهم لكم .
وأخرج
nindex.php?page=showalam&ids=16328ابن أبي حاتم عن
مقاتل إن تمسسكم حسنة يعني النصر على العدو والرزق والخير
تسؤهم وإن تصبكم سيئة يعني القتل والهزيمة والجهد .