كل نفس ذائقة الموت وإنما توفون أجوركم يوم القيامة فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور لتبلون في أموالكم وأنفسكم ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمنا قليلا فبئس ما يشترون لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب ولهم عذاب أليم ولله ملك السماوات والأرض والله على كل شيء قدير
قوله : ذائقة من الذوق ، ومنه قول
nindex.php?page=showalam&ids=12467أمية بن أبي الصلت :
من لم يمت عبطة يمت هرما الموت كأس والمرء ذائقها
وهذه الآية تتضمن الوعد والوعيد للمصدق والمكذب بعد إخباره عن الباخلين القائلين :
إن الله فقير ونحن أغنياء . وقرأ
nindex.php?page=showalam&ids=13726الأعمش nindex.php?page=showalam&ids=17340ويحيى بن وثاب وابن أبي إسحاق ذائقة الموت بالتنوين ونصب الموت .
وقرأ الجمهور بالإضافة . قوله :
وإنما توفون أجوركم يوم القيامة أجر المؤمن : الثواب ، وأجر الكافر : العقاب ; أي : أن توفية الأجور وتكميلها إنما تكون في ذلك اليوم ، وما يقع من الأجور في الدنيا أو في البرزخ فإنما هو بعض الأجور .
والزحزحة : التنحية ، والإبعاد : تكرير الزح وهو الجذب بعجلة ، قاله في الكشاف وقد سبق الكلام عليه ; أي : فمن بعد عن النار يومئذ ونحي فقد فاز ; أي : ظفر بما يريد ونجا مما يخاف ، وهذا هو الفوز الحقيقي الذي لا فوز يقاربه ، فإن كل فوز وإن كان بجميع المطالب دون الجنة ليس بشيء بالنسبة إليها ، اللهم لا فوز إلا فوز الآخرة ، ولا عيش إلا عيشها ، ولا نعيم إلا نعيمها ، فاغفر ذنوبنا ، واستر عيوبنا ، وارض عنا رضا لا سخط بعده ، واجمع لنا بين الرضا منك علينا والجنة . والمتاع : ما يتمتع به الإنسان وينتفع به ثم يزول ولا يبقى ، كذا قال أكثر المفسرين .
الغرور : الشيطان يغر الناس بالأماني الباطلة والمواعيد الكاذبة ، شبه سبحانه الدنيا بالمتاع الذي يدلس به على من يريده ، وله ظاهر محبوب وباطن مكروه . قوله :
لتبلون في أموالكم وأنفسكم هذا الخطاب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وأمته تسلية لهم عما سيلقونه من الكفرة والفسقة ليوطنوا أنفسهم على
الثبات والصبر على [ ص: 261 ] المكاره .
والابتلاء : الامتحان والاختبار ، والمعنى : لتمتحنن ولتختبرن في أموالكم بالمصائب والإنفاقات الواجبة وسائر التكاليف الشرعية المتعلقة بالأموال . والابتلاء في الأنفس بالموت والأمراض ، وفقد الأحباب ، والقتل في سبيل الله .
وهذه الجملة جواب قسم محذوف دلت عليه اللام الموطئة
ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وهم
اليهود والنصارى ومن الذين أشركوا وهم سائر الطوائف الكفرية من غير أهل الكتاب
أذى كثيرا من الطعن في دينكم وأعراضكم ، والإشارة بقوله : فإن ذلك إلى الصبر والتقوى المدلول عليهما بالفعلين ، وعزم الأمور : معزوماتها ، أي : مما يجب عليكم أن تعزموا عليه لكونه عزمة من عزمات الله التي أوجب عليهم القيام بها ، يقال عزم الأمر ; أي : شده وأصلحه . قوله :
وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب هذه الآية توبيخ لأهل الكتاب وهم
اليهود والنصارى ، أو
اليهود فقط على الخلاف في ذلك - والظاهر أن
المراد بأهل الكتاب كل من آتاه الله علم شيء من الكتاب ; أي كتاب كان ، كما يفيده التعريف الجنسي في الكتاب .
قال
الحسن وقتادة : إن الآية عامة لكل عالم ، وكذا قال
nindex.php?page=showalam&ids=14980محمد بن كعب ويدل على ذلك قول
nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة : لولا ما أخذ الله على أهل الكتاب ما حدثتكم بشيء ، ثم تلا هذه الآية ، والضمير في قوله : " لتبيننه " راجع إلى الكتاب ، وقيل : راجع إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وإن لم يتقدم له ذكر ; لأن
الله أخذ على اليهود والنصارى أن يبينوا نبوته للناس ولا يكتموها فنبذوه وراء ظهورهم . وقرأ
أبو عمرو وعاصم في رواية
أبي بكر وأهل المدينة ( ليبيننه ) بالياء التحتية ، وقرأ الباقون بالمثناة الفوقية .
وقرأ
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس ( وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لتبيننه ) [ التوبة : 30 ] ويشكل على هذه القراءة قوله : فنبذوه ، فلا بد من أن يكون فاعله الناس . وفي قراءة
nindex.php?page=showalam&ids=10ابن مسعود لتبينونه ، والنبذ : الطرح ، وقد تقدم في البقرة .
وقوله :
وراء ظهورهم مبالغة في النبذ والطرح ، وقد تقدم أيضا معنى قوله :
واشتروا به ثمنا قليلا والضمير عائد إلى الكتاب الذي أمروا ببيانه ونهوا عن كتمانه . وقوله : ثمنا قليلا أي : حقيرا يسيرا من حطام الدنيا وأعراضها ، قوله :
فبئس ما يشترون " ما " نكرة منصوبة مفسرة لفاعل بئس ، ويشترون صفة ، والمخصوص بالذم محذوف ; أي : بئس شيئا يشترونه بذلك الثمن .
قوله :
لا تحسبن الذين يفرحون قرأ الكوفيون بالتاء الفوقية والخطاب لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أو لكل من يصلح له . وقوله : بما أتوا أي : بما فعلوا .
وقد اختلف في سبب نزول الآية كما سيأتي ، والظاهر شمولها لكل من حصل منه ما تضمنته عملا بعموم اللفظ ، وهو المعتبر دون خصوص السبب ، فمن فرح بما فعل وأحب أن يحمده الناس بما لم يفعل فلا تحسبنه بمفازة من العذاب . وقرأ
نافع وابن عامر وابن كثير وأبو عمرو ( لا يحسبن ) بالياء التحتية ; أي : لا يحسبن الفارحون فرحهم منجيا لهم من العذاب ، فالمفعول الأول محذوف وهو فرحهم ، والمفعول الثاني بمفازة من العذاب .
وقوله : فلا تحسبنهم تأكيد للفعل الأول على القراءتين ، والمفازة : المنجاة ، مفعلة من فاز يفوز إذا نجا ; أي : ليسوا بفائزين ، سمي موضع الخوف مفازة على جهة التفاؤل ، قاله
nindex.php?page=showalam&ids=13721الأصمعي . وقيل : لأنها موضع تفويز ومظنة هلاك ، تقول العرب : فوز الرجل إذا مات .
قال
ثعلب : حكيت
nindex.php?page=showalam&ids=12585لابن الأعرابي قول
nindex.php?page=showalam&ids=13721الأصمعي فقال : أخطأ . قال لي
أبو المكارم : إنما سميت مفازة لأن من قطعها فاز .
وقال
nindex.php?page=showalam&ids=12585ابن الأعرابي : بل لأنه مستسلم لما أصابه . وقيل المعنى : لا تحسبنهم بمكان بعيد من العذاب ; لأن الفوز التباعد عن المكروه .
وقرأ
nindex.php?page=showalam&ids=17065مروان بن الحكم nindex.php?page=showalam&ids=13726والأعمش nindex.php?page=showalam&ids=12354وإبراهيم النخعي ( آتوا ) بالمد ; أي : يفرحون بما أعطوا . وقرأ جمهور القراء - السبعة وغيرهم - " أتوا " بالقصر .
وقد أخرج
nindex.php?page=showalam&ids=12508ابن أبي شيبة وهناد nindex.php?page=showalam&ids=16298وعبد بن حميد nindex.php?page=showalam&ids=13948والترمذي وصححه
nindex.php?page=showalam&ids=13053وابن حبان nindex.php?page=showalam&ids=16935وابن جرير nindex.php?page=showalam&ids=16328وابن أبي حاتم والحاكم وصححه عن
nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :
nindex.php?page=hadith&LINKID=1019836إن موضع سوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها ، اقرءوا إن شئتم فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور . وأخرج
ابن مردويه عن
nindex.php?page=showalam&ids=31سهل بن سعد مرفوعا نحوه .
وأخرج
nindex.php?page=showalam&ids=16935ابن جرير nindex.php?page=showalam&ids=16328وابن أبي حاتم عن
nindex.php?page=showalam&ids=12300الزهري في قوله :
ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم قال : هو
كعب بن الأشرف ، وكان يحرض المشركين على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في شعره . وأخرج
ابن المنذر من طريق
nindex.php?page=showalam&ids=12300الزهري عن
عبد الرحمن بن كعب بن مالك مثله .
وأخرج
nindex.php?page=showalam&ids=16935ابن جرير وابن المنذر nindex.php?page=showalam&ids=16328وابن أبي حاتم عن
nindex.php?page=showalam&ids=13036ابن جريج في الآية قال : يعني
اليهود والنصارى ، فكان المسلمون يسمعون من
اليهود قولهم : عزير ابن الله [ التوبة : 30 ] ، ومن
النصارى قولهم : المسيح ابن الله [ التوبة : 30 ]
وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور قال : من القوة مما عزم الله عليه وأمركم به . وأخرج
nindex.php?page=showalam&ids=12563ابن إسحاق nindex.php?page=showalam&ids=16935وابن جرير عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس في قوله :
وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس قال :
فنحاص وأشيع وأشباههما من الأحبار .
وأخرج
nindex.php?page=showalam&ids=16935ابن جرير nindex.php?page=showalam&ids=16328وابن أبي حاتم من طريق
nindex.php?page=showalam&ids=16574العوفي عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس في قوله :
وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس قال : كان الله أمرهم أن يتبعوا النبي الأمي . وأخرج
ابن المنذر nindex.php?page=showalam&ids=16328وابن أبي حاتم عنه في الآية قال : في التوراة والإنجيل أن الإسلام دين الله الذي افترضه على عباده ، وأن
محمدا رسول الله يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل فنبذوه .
وأخرج
nindex.php?page=showalam&ids=16935ابن جرير وابن المنذر nindex.php?page=showalam&ids=16328وابن أبي حاتم عن
nindex.php?page=showalam&ids=15992سعيد بن جبير في الآية قال : هم
اليهود لتبيننه للناس قال :
محمدا صلى الله عليه وآله وسلم . وأخرج
nindex.php?page=showalam&ids=16935ابن جرير عن
nindex.php?page=showalam&ids=14468السدي مثله .
وأخرج
nindex.php?page=showalam&ids=16298عبد بن حميد nindex.php?page=showalam&ids=16935وابن جرير وابن المنذر nindex.php?page=showalam&ids=16328وابن أبي حاتم عن
قتادة في الآية قال : هذا ميثاق أخذه الله على أهل العلم ، فمن علم علما
[ ص: 262 ] فليعلمه للناس ،
وإياكم وكتمان العلم ، فإن كتمان العلم هلكة . وأخرج
ابن سعد عن
الحسن قال : لولا الميثاق الذي أخذه الله على أهل العلم ما حدثتكم بكثير مما تسألون عنه .
وأخرج
nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري ومسلم وغيرهما : أن
مروان قال لبوابه : اذهب يا
رافع إلى
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس فقل : لئن كان كل امرئ منا فرح بما أوتي وأحب أن يحمد بما لم يفعل معذبا لنعذبن أجمعون ، فقال
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس : ما لكم ولهذه الآية ، إنما أنزلت في أهل الكتاب ، ثم تلا
وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب الآية ، قال
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس :
nindex.php?page=hadith&LINKID=1019837سألهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن شيء فكتموه إياه وأخبروه بغيره ، فخرجوا وقد أروه أن قد أخبروه بما سألهم عنه واستحمدوا بذلك إليه ، وفرحوا بما أتوا من كتمان ما سألهم عنه . وفي
nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري ومسلم وغيرهما عن
nindex.php?page=showalam&ids=44أبي سعيد الخدري : أن رجالا من
المنافقين كانوا إذا خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى الغزو تخلفوا عنه وفرحوا بمقعدهم خلاف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فإذا قدم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من الغزو اعتذروا إليه وحلفوا وأحبوا أن يحمدوا بما لم يفعلوا فنزلت . وقد روي أنها نزلت في
فنحاص وأشيع وأشباههما . وروي أنها نزلت في
اليهود .
وأخرج
مالك وابن سعد nindex.php?page=showalam&ids=14687والطبراني والبيهقي في الدلائل عن
محمد بن ثابت nindex.php?page=hadith&LINKID=1019838أن nindex.php?page=showalam&ids=215ثابت بن قيس قال : يا رسول الله لقد خشيت أن أكون قد هلكت . قال : لم ؟ قال : قد نهانا الله أن نحب أن نحمد بما لم نفعل وأجدني أحب الحمد ، ونهانا عن الخيلاء وأجدني أحب الجمال ، ونهانا أن نرفع أصواتنا فوق صوتك وأنا رجل جهير الصوت ، فقال : يا ثابت ألا ترضى أن تعيش حميدا وتقتل شهيدا وتدخل الجنة ؟ فعاش حميدا وقتل شهيدا يوم مسيلمة الكذاب . وأخرج
ابن المنذر عن
الضحاك في قوله : بمفازة قال بمنجاة .
وأخرج
nindex.php?page=showalam&ids=16935ابن جرير عن
ابن زيد مثله .