إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة ولهم عذاب عظيم
ذكر سبحانه فريق الشر بعد الفراغ من ذكر فريق الخير
[ ص: 29 ] قاطعا لهذا الكلام عن الكلام الأول ، معنونا له بما يفيد أن شأن جنس الكفرة عدم إجداء الإنذار لهم ، وأنه لا يترتب عليهم ما هو المطلوب منهم من الإيمان ، وأن وجود ذلك كعدمه .
و " سواء " اسم بمعنى الاستواء وصف به كما يوصف بالمصادر ، والهمزة وأم مجردتان لمعنى الاستواء غير مراد بهما ما هو أصلهما من الاستفهام ، وصح الابتداء بالفعل والإخبار عنه بقوله : " سواء " ، هجرا لجانب اللفظ إلى جانب المعنى ، كأنه قال : الإنذار وعدمه سواء ، كقولهم : تسمع بالمعيدي خير من أن تراه : أي سماعك .
وأصل الكفر في اللغة : الستر والتغطية ، قال الشاعر :
في ليلة كفر النجوم غمامها
أي سترها ، ومنه سمي الكافر كافرا لأنه يغطي بكفره ما يجب أن يكون عليه من الإيمان .
والإنذار : الإبلاغ والإعلام .
قال
القرطبي : واختلف العلماء في تأويل هذه الآية ، فقيل : هي عامة ومعناها الخصوص فيمن سبقت عليه كلمة العذاب ، وسبق في علم الله أنه يموت على كفره .
أراد الله تعالى أن يعلم الناس أن فيهم من هذا حاله دون أن يعين أحدا .
وقال
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس والكلبي : نزلت في رؤساء اليهود
حيي بن أخطب وكعب بن الأشرف ونظرائهما .
وقال
nindex.php?page=showalam&ids=14354الربيع بن أنس : نزلت فيمن قتل يوم
بدر من قادة الأحزاب ، والأول أصح ، فإن من عين أحدا فإنما مثل بمن كشف الغيب بموته على الكفر انتهى .
وقوله : لا يؤمنون خبر مبتدأ محذوف : أي هم لا يؤمنون ، وهي جملة مستأنفة لأنها جواب سؤال مقدر كأنه قيل : هؤلاء الذي استوى حالهم مع الإنذار وعدمه ماذا يكون منهم ؟ فقيل : لا يؤمنون : أي هم لا يؤمنون : وقال في الكشاف : إنها جملة مؤكدة للجملة الأولى ، أو خبر لأن والجملة قبلها اعتراض انتهى .
والأولى ما ذكرناه ، لأن المقصود الإخبار عن عدم الاعتداد بإنذارهم ، وأنه لا يجدي شيئا بل بمنزلة العدم ، فهذه الجملة هي التي وقعت خبرا لأن ، وما بعدها من عدم الإيمان متسبب عنها لا أنه المقصود .
وقد قال بمثل قول
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزمخشري القرطبي .
وقال
ابن كيسان : إن خبر إن سواء ، وما بعده يقوم مقام الصلة .
وقال
nindex.php?page=showalam&ids=15153محمد بن يزيد المبرد : سواء رفع بالابتداء ، وخبره
أأنذرتهم أم لم تنذرهم ، والجملة خبر إن ، والختم : مصدر ختمت الشيء ، ومعناه : التغطية على الشيء والاستيثاق منه حتى لا يدخله شيء ، ومنه ختم الكتاب والباب وما يشبه ذلك حتى لا يوصل إلى ما فيه ولا يوضع فيه غيره .
والغشاوة : الغطاء ، ومنه غاشية السرج ، والمراد بالختم والغشاوة هنا هما المعنويان لا الحسيان : أي لما كانت قلوبهم غير واعية لما وصل إليها ، والأسماع غير مؤدية لما يطرقها من الآيات البينات إلى العقل على وجه مفهوم ، والأبصار غير مهدية للنظر في مخلوقاته وعجائب مصنوعاته جعلت بمنزلة الأشياء المختوم عليها ختما حسيا ، والمستوثق منها استيثاقا حقيقيا ، والمغطاة بغطاء مدرك استعارة أو تمثيلا ، وإسناد الختم إلى الله قد احتج به أهل السنة على المعتزلة ، وحاولوا دفع هذه الحجة بمثل ما ذكره صاحب الكشاف ، والكلام على مثل هذا متقرر في مواطنه .
وقد اختلف في قوله تعالى :
وعلى سمعهم هل هو داخل في حكم الختم فيكون معطوفا على القلوب أو في حكم التغشية ، فقيل : إن الوقف على قوله :
وعلى سمعهم تام ، وما بعده كلام مستقل ، فيكون الطبع على القلوب والأسماع ، والغشاوة على الأبصار كما قاله جماعة ، وقد قرئ : " غشاوة " بالنصب .
قال
nindex.php?page=showalam&ids=16935ابن جرير : يحتمل أنه نصبها بإضمار فعل تقديره : وجعل على أبصارهم غشاوة ، ويحتمل أن يكون نصبها على الإتباع على محل وعلى سمعهم ، كقوله تعالى :
وحور عين [ الواقعة : 22 ] وقول الشاعر :
علفتها تبنا وماء باردا
وإنما وحد السمع مع جمع القلوب والأبصار ؛ لأنه مصدر يقع على القليل والكثير .
والعذاب : هو ما يؤلم ، وهو مأخوذ من الحبس والمنع ، يقال في اللغة أعذبه عن كذا : حبسه ومنعه ، ومنه عذوبة الماء لأنها حبست في الإناء حتى صفت .
وقد أخرج
nindex.php?page=showalam&ids=16935ابن جرير nindex.php?page=showalam&ids=16328وابن أبي حاتم nindex.php?page=showalam&ids=14687والطبراني في الكبير
وابن مردويه والبيهقي عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس في قوله
سواء عليهم أأنذرتهم قال : كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يحرص أن يؤمن جميع الناس ويتابعوه على الهدى ، فأخبره الله أنه لا يؤمن إلا من سبق له من الله السعادة في الذكر الأول ، ولا يضل إلا من سبق له من الله الشقاوة في الذكر الأول .
وأخرج
nindex.php?page=showalam&ids=12563ابن إسحاق nindex.php?page=showalam&ids=16935وابن جرير nindex.php?page=showalam&ids=16328وابن أبي حاتم عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس أيضا في تفسير الآية : أنهم قد كفروا بما عندهم من ذكرك ، وجحدوا ما أخذ عليهم من الميثاق ، فكيف يسمعون منك إنذارا وتحذيرا ، وقد كفروا بما عندهم من علمك .
ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة .
وأخرج
nindex.php?page=showalam&ids=16935ابن جرير وابن المنذر nindex.php?page=showalam&ids=16328وابن أبي حاتم عن
أبي العالية في قوله : إن الذين كفروا قال : نزلت هاتان الآيتان في قادة الأحزاب ، وهم الذين ذكرهم الله في هذه الآية :
ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا [ إبراهيم : 28 ] قال : فهم الذين قتلوا يوم بدر ، ولم يدخل القادة في الإسلام إلا رجلان :
أبو سفيان ، والحكم بن العاص .
وأخرج
ابن المنذر عن
nindex.php?page=showalam&ids=14468السدي في قوله :
أأنذرتهم أم لم تنذرهم قال : أوعظتهم أم لم تعظهم .
وأخرج
nindex.php?page=showalam&ids=16298عبد بن حميد عن
قتادة في هذه الآية قال : أطاعوا الشيطان فاستحوذ عليهم ، فختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة فهم لا يبصرون هدى ، ولا يسمعون ولا يفقهون ولا يعقلون .
وأخرج
nindex.php?page=showalam&ids=16935ابن جرير nindex.php?page=showalam&ids=16328وابن أبي حاتم ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس ، قال : الختم على قلوبهم وعلى سمعهم والغشاوة على أبصارهم .
وأخرج
nindex.php?page=showalam&ids=16935ابن جرير عن
nindex.php?page=showalam&ids=10ابن مسعود قال :
ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم فلا يعقلون ولا يسمعون ، وجعل على أبصارهم : يعني أعينهم غشاوة فهم لا يبصرون .
وروى ذلك
nindex.php?page=showalam&ids=14468السدي عن جماعة من الصحابة .
وأخرج
nindex.php?page=showalam&ids=16935ابن جرير عن
ابن [ ص: 30 ] جريج قال : الختم على القلب والسمع ، والغشاوة على البصر ، قال الله تعالى :
فإن يشأ الله يختم على قلبك [ الشورى : 24 ] وقال :
وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة [ الجاثية : 23 ] .
قال
nindex.php?page=showalam&ids=16935ابن جرير في معنى الختم : والحق عندي في ذلك ما صح نظيره عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، ثم ذكر إسنادا متصلا
nindex.php?page=showalam&ids=3بأبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :
nindex.php?page=hadith&LINKID=1019351إن المؤمن إذا أذنب ذنبا كان نكتة سوداء في قلبه ، فإن تاب ونزع واستعتب صقل قلبه ، وإن زاد زادت حتى تغلق قلبه فذلك الران الذي قال الله : كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون [ المطففين : 14 ] 30 .
وقد رواه من هذا الوجه
الترمذي وصححه
nindex.php?page=showalam&ids=15397والنسائي .
ثم قال
nindex.php?page=showalam&ids=16935ابن جرير فأخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن
الذنوب إذا تتابعت على القلوب أغلقتها ، وإذا أغلقتها أتاها حينئذ الختم من قبل الله سبحانه والطبع فلا يكون إليها مسلك ولا للكفر منها مخلص ، فذلك هو الختم الذي ذكره الله في قوله :
ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم نظير الطبع والختم على ما تدركه الأبصار من الأوعية والظروف التي لا يوصل إلى ما فيها إلا بفض ذلك عنها ثم حلها ، فذلك لا يصل الإيمان إلى قلوب من وصف الله أنه ختم على قلوبهم إلا بعد فض خاتمه ، وحل رباطه عنها .