ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا فكيف إذا أصابتهم مصيبة بما قدمت أيديهم ثم جاءوك يحلفون بالله إن أردنا إلا إحسانا وتوفيقا أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم فأعرض عنهم وعظهم وقل لهم في أنفسهم قولا بليغا وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما
قوله :
ألم تر إلى الذين يزعمون فيه تعجيب لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من حال هؤلاء الذين ادعوا لأنفسهم أنهم قد جمعوا بين الإيمان بما أنزل على رسول الله وهو القرآن ، وما أنزل على من قبله من الأنبياء ، فجاءوا بما ينقض عليهم هذه الدعوى ويبطلها من أصلها ويوضح أنهم ليسوا على شيء من ذلك أصلا ، وهو إرادتهم التحاكم إلى الطاغوت وقد أمروا فيما أنزل على رسول الله وعلى من قبله أن يكفروا به ، وسيأتي بيان سبب نزول الآية ، وبه يتضح معناها . وقد تقدم تفسير الطاغوت والاختلاف في معناه .
قوله :
ويريد الشيطان معطوف على قوله : يريدون والجملتان مسوقتان لبيان محل التعجب ، كأنه قيل : ماذا يفعلون ؟ فقيل : يريدون كذا ، ويريد الشيطان كذا . وقوله : ضلالا مصدر للفعل المذكور بحذف الزوائد كقوله :
والله أنبتكم من الأرض نباتا أو مصدر لفعل محذوف دل عليه الفعل المذكور ، والتقدير : ويريد الشيطان أن يضلهم فيضلون ضلالا .
وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا والصدود : اسم للمصدر ، وهو الصد عند
الخليل ، وعند الكوفيين أنهما مصدران ; أي : يعرضون عنك إعراضا . قوله :
فكيف إذا أصابتهم مصيبة بما قدمت أيديهم بيان لعاقبة أمرهم وما صار إليه حالهم ; أي : كيف يكون حالهم
إذا أصابتهم مصيبة أي وقت إصابتهم ، فإنهم يعجزون عند ذلك ولا يقدرون على الدفع .
والمراد
بما قدمت أيديهم ما فعلوه من المعاصي التي من جملتها التحاكم إلى الطاغوت ثم جاءوك يعتذرون عن فعلهم ، وهو عطف على أصابتهم وقوله : يحلفون حال ; أي : جاءوك حال كونهم حالفين
إن أردنا إلا إحسانا وتوفيقا أي : ما أردنا بتحاكمنا إلى غيرك إلا الإحسان لا الإساءة ، والتوفيق بين الخصمين لا المخالفة لك . وقال
ابن كيسان : معناه ما أردنا إلا عدلا وحقا مثل قوله :
وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى [ التوبة : 107 ] .
فكذبهم الله بقوله :
أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم من النفاق والعداوة للحق . قال
nindex.php?page=showalam&ids=14416الزجاج : معناه قد علم الله أنهم منافقون
فأعرض عنهم أي : عن عقابهم ، وقيل : عن قبول اعتذارهم وعظهم أي : خوفهم من النفاق
وقل لهم في أنفسهم أي : في حق أنفسهم ، وقيل معناه : قل لهم خاليا بهم ليس معهم غيرهم قولا بليغا أي : بالغا في " وعظهم " إلى المقصود مؤثرا فيهم ، وذلك بأن توعدهم بسفك دمائهم وسبي نسائهم وسلب أموالهم .
وما أرسلنا من رسول " من " زائدة للتوكيد إلا ليطاع فيما أمر به ونهى عنه بإذن الله بعلمه ، وقيل : بتوفيقه
ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم بترك طاعتك والتحاكم إلى غيرك جاءوك متوسلين إليك متنصلين عن جناياتهم ومخالفتهم
فاستغفروا الله لذنوبهم وتضرعوا إليك حتى قمت شفيعا لهم فاستغفرت لهم ، وإنما قال :
واستغفر لهم الرسول على طريقة الالتفات لقصد التفخيم لشأن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم
لوجدوا الله توابا رحيما أي : كثير التوبة عليهم والرحمة لهم . قوله : فلا وربك .
قال
nindex.php?page=showalam&ids=16935ابن جرير : قوله : فلا رد على ما تقدم ذكره ، تقديره فليس الأمر كما
[ ص: 310 ] يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك ، ثم استأنف القسم بقوله :
وربك لا يؤمنون وقيل : إنه قدم ( لا ) على القسم اهتماما بالنفي ، وإظهارا لقوته ثم كرره بعد القسم تأكيدا ، وقيل : " لا " مزيدة لتأكيد معنى القسم لا لتأكيد معنى النفي ، والتقدير : فوربك لا يؤمنون كما في قوله :
فلا أقسم بمواقع النجوم [ الواقعة : 75 ] .
حتى يحكموك أي : جعلوك حكما بينهم في جميع أمورهم لا يحكمون أحدا غيرك ، وقيل : معناه يتحاكمون إليك ، ولا ملجئ لذلك
فيما شجر بينهم أي اختلف بينهم واختلط ، ومنه الشجر لاختلاف أغصانه ، ومنه قول
طرفة :
وهم الحكام أرباب الهدى وسعاة الناس في الأمر الشجر
أي : المختلف ، ومنه تشاجر الرماح ; أي : اختلافها
ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت قيل : هو معطوف على مقدر ينساق إليه الكلام ; أي : فتقضي بينهم ثم لا يجدوا . والحرج : الضيق ، وقيل : الشك ، ومنه قيل للشجر الملتف : حرج وحرجة ، وجمعها حراج ، وقيل : الحرج : الإثم ; أي : لا يجدون في أنفسهم إثما بإنكارهم ما قضيت
ويسلموا تسليما أي : ينقادوا لأمرك وقضائك انقيادا لا يخالفونه في شيء . قال
nindex.php?page=showalam&ids=14416الزجاج : تسليما مصدر مؤكد ; أي : ويسلمون لحكمك تسليما لا يدخلون على أنفسهم شكا ولا شبهة فيه .
والظاهر أن هذا شامل لكل فرد في كل حكم كما يؤيد ذلك قوله :
وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله ، وأما بعد موته فتحكيم الكتاب والسنة ، وتحكيم الحاكم بما فيهما من الأئمة والقضاة إذا كان لا يحكم بالرأي المجرد مع وجود الدليل في الكتاب والسنة أو في أحدهما ، وكان يعقل ما يرد عليه من حجج الكتاب والسنة ، بأن يكون عالما باللغة العربية وما يتعلق بها من نحو وتصريف ومعان وبيان ، عارفا بما يحتاج إليه من علم الأصول ، بصيرا بالسنة المطهرة ، مميزا بين الصحيح وما يلحق به ، والضعيف وما يلحق به ، منصفا غير متعصب لمذهب من المذاهب ولا لنحلة من النحل ، ورعا لا يحيف ولا يميل في حكمه ، فمن كان هكذا فهو قائم في مقام النبوة مترجم عنها حاكم بأحكامها . وفي هذا الوعيد الشديد ما تقشعر له الجلود وترجف له الأفئدة ، فإنه أولا أقسم سبحانه بنفسه مؤكدا لهذا القسم بحرف النفي بأنهم لا يؤمنون ، فنفى عنهم الإيمان الذي هو رأس مال صالحي عباد الله حتى تحصل لهم غاية هي تحكيم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، ثم لم يكتف سبحانه بذلك حتى قال :
ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت فضم إلى التحكيم أمرا آخر ، هو عدم وجود حرج ; أي : حرج في صدورهم ، فلا يكون مجرد التحكيم والإذعان كافيا حتى يكون من صميم القلب عن رضا واطمئنان وانثلاج قلب وطيب نفس ، ثم لم يكتف بهذا كله ، بل ضم إليه قوله : ويسلموا أي : يذعنوا وينقادوا ظاهرا وباطنا ، ثم لم يكتف بذلك ، بل ضم إليه المصدر المؤكد فقال : تسليما فلا يثبت الإيمان لعبد حتى يقع منه هذا التحكيم ولا يجد الحرج في صدره بما قضي عليه ويسلم لحكم الله وشرعه ، تسليما لا يخالطه رد ولا تشوبه مخالفة .
وقد أخرج
nindex.php?page=showalam&ids=16328ابن أبي حاتم nindex.php?page=showalam&ids=14687والطبراني بسند قال
السيوطي : صحيح عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس ، قال : كان برزة الأسلمي كاهنا يقضي بين
اليهود فيما يتنافرون فيه ، فتنافر إليه ناس من المسلمين ، فأنزل الله
ألم تر إلى الذين يزعمون الآية . وأخرج
nindex.php?page=showalam&ids=12563ابن إسحاق وابن المنذر nindex.php?page=showalam&ids=16328وابن أبي حاتم عنه قال : كان
الجلاس بن الصامت قبل توبته
ومعقب بن قشير ورافع بن زيد كانوا يدعون الإسلام ، فدعاهم رجال من قومهم من المسلمين في خصومة كانت بينهم إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فدعوهم إلى الكهان حكام الجاهلية ، فنزلت الآية المذكورة .
وأخرج
nindex.php?page=showalam&ids=16935ابن جرير nindex.php?page=showalam&ids=16328وابن أبي حاتم من طريق
nindex.php?page=showalam&ids=16574العوفي عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس في قوله :
يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت قال : الطاغوت رجل من
اليهود كان يقال له :
كعب بن الأشرف ، وكانوا إذا ما دعوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول ليحكم بينهم قالوا : بل نحاكمكم إلى
كعب ، فنزلت الآية . وأخرج
nindex.php?page=showalam&ids=16935ابن جرير عن
الضحاك مثله .
وأخرج
nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري ومسلم وأهل السنن وغيرهم عن
عبد الله بن الزبير :
nindex.php?page=hadith&LINKID=1019940أن الزبير خاصم رجلا من الأنصار قد شهد بدرا مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في شراج من الحرة ، وكانا يسقيان به كلاهما النخل . فقال الأنصاري : سرح الماء يمر . فأبى عليه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : اسق يا زبير ، ثم أرسل الماء إلى جارك . فغضب الأنصاري وقال : يا رسول الله أن كان ابن عمتك ؟ فتلون وجه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثم قال : اسق يا زبير ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجدر ، ثم أرسل الماء إلى جارك واستوعى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم للزبير حقه ، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قبل ذلك أشار على الزبير برأي أراد فيه سعة له وللأنصاري ، فلما أحفظ رسول الله الأنصاري استوعى للزبير حقه في صريح الحكم ، فقال الزبير : ما أحسب هذه الآية نزلت إلا في ذلك فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم . وأخرج
nindex.php?page=showalam&ids=16328ابن أبي حاتم وابن مردويه من طريق
nindex.php?page=showalam&ids=16457ابن لهيعة عن
الأسود : أن سبب نزول الآية
أنه اختصم إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رجلان فقضى بينهما ، فقال المقضي عليه : ردنا إلىعمر ، فردهما ، فقتل عمر الذي قال : ردنا ، ونزلت الآية ، فأهدر النبي صلى الله عليه وآله وسلم دم المقتول .
وأخرجه
nindex.php?page=showalam&ids=14155الحكيم الترمذي في نوادر الأصول عن
مكحول فذكر نحوه ، وبين أن الذي قتله
عمر كان منافقا ، وهما مرسلان ، والقصة غريبة ،
nindex.php?page=showalam&ids=16457وابن لهيعة فيه ضعف .