فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية

الشوكاني - محمد بن علي بن محمد الشوكاني

صفحة جزء
قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله أو أتتكم الساعة أغير الله تدعون إن كنتم صادقين بل إياه تدعون فيكشف ما تدعون إليه إن شاء وتنسون ما تشركون ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فأخذناهم بالبأساء والضراء لعلهم يتضرعون فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا ولكن قست قلوبهم وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين [ ص: 419 ] قوله : أرأيتكم : الكاف والميم عند البصريين للخطاب ولا حظ لهما في الإعراب ، وهو اختيار الزجاج .

وقال الكسائي والفراء وغيرهما ، : إن الكاف والميم في محل نصب بوقوع الرؤية عليهما .

والمعنى : أرأيتم أنفسكم .

قال الكشاف مرجحا للمذهب الأول : إنه لا محل للضمير الثاني ، يعني الكاف من الإعراب ، لأنك تقول : أرأيتك زيدا ما شأنه ، فلو جعلت للكاف محلا لكنت كأنك تقول : أرأيت نفسك زيدا ما شأنه وهو خلف من القول انتهى .

والمعنى : أخبروني إن أتاكم عذاب الله كما أتى غيركم من الأمم أو أتتكم الساعة أي القيامة أغير الله تدعون هذا على طريقة التبكيت والتوبيخ : أي أتدعون غير الله في هذه الحالة من الأصنام التي تعبدونها أم تدعون الله سبحانه ، وقوله : إن كنتم صادقين تأكيد لذلك التوبيخ : أي أغير الله من الأصنام تدعون إن كنتم صادقين أن أصنامكم تضر وتنفع وأنها آلهة كما تزعمون .

قوله : بل إياه تدعون معطوف على منفي مقدر أي لا تدعون غيره بل إياه تخصون بالدعاء فيكشف ما تدعون إليه أي فيكشف عنكم ما تدعونه إلى كشفه إن شاء أن يكشفه عنكم لا إذا لم يشأ ذلك .

قوله : وتنسون ما تشركون أي وتنسون عند أن يأتيكم العذاب ما تشركون به تعالى : أي ما تجعلونه شريكا له من الأصنام ونحوها فلا تدعونها ، ولا ترجون كشف ما بكم منها ، بل تعرضون عنها إعراض الناس .

وقال الزجاج : يجوز أن يكون المعنى : وتتركون ما تشركون .

قوله : ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك كلام مبتدأ مسوق لتسلية النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - : أي ولقد أرسلنا إلى أمم كائنة من قبلك رسلا فكذبوهم فأخذناهم بالبأساء والضراء أي : البؤس والضر وقيل : البأساء : المصائب في الأموال ، والضراء : المصائب في الأبدان ، وبه قال الأكثر : لعلهم يتضرعون أي يدعون الله بضراعة ، مأخوذ من الضراعة وهي الذل ، يقال : ضرع فهو ضارع ، ومنه قول الشاعر :


لبيك يزيد ضارع لخصومة ومختبط مما تطيح الطوائح

قوله : فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا أي فهلا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا لكنهم لم يتضرعوا ، وهذا عتاب لهم على ترك الدعاء في كل الأحوال حتى عند نزول العذاب بهم لشدة تمردهم وغلوهم في الكفر ، ويجوز أن يكون المعنى أنهم تضرعوا عند أن نزل بهم العذاب ، وذلك تضرع ضروري لم يصدر عن إخلاص فهو غير نافع لصاحبه ، والأول أولى كما يدل عليه ولكن قست قلوبهم أي صلبت وغلظت وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون أي أغواهم بالتصميم على الكفر والاستمرار على المعاصي .

قوله : فلما نسوا ما ذكروا به أي تركوا ما ذكروا به ، أو أعرضوا عما ذكروا به ، لأن النسيان لو كان على حقيقته لم يؤاخذوا به ، إذ ليس هو من فعلهم ، وبه قال ابن عباس ، وابن جريج وأبو علي الفارسي .

والمعنى : أنهم لما تركوا الاتعاظ بما ذكروا به من البأساء والضراء وأعرضوا عن ذلك فتحنا عليهم أبواب كل شيء أي لما نسوا ما ذكروا به استدرجناهم بفتح أبواب كل نوع من أنواع الخير عليهم حتى إذا فرحوا بما أوتوا من الخير على أنواعه ، فرح : بطر وأشر ، وأعجبوا بذلك وظنوا أنهم إنما أعطوه لكون كفرهم الذي هم عليه حقا وصوابا : أخذناهم بغتة أي : فجأة وهم غير مترقبين لذلك والبغتة : الأخذ على غرة من غير تقدمة أمارة ، وهي مصدر في موضع الحال لا يقاس عليها عند سيبويه .

قوله : فإذا هم مبلسون المبلس : الحزين الآيس من الخير لشدة ما نزل به من سوء الحال ، ومن ذلك اشتق اسم إبليس يقال : أبلس الرجل إذا سكت ، وأبلست الناقة إذا لم ترع .

قال العجاج :


صاح هل تعرف رسما مكرسا     قال نعم أعرفه وأبلسا

أي تحير لهول ما رأى ، والمعنى : فإذا هم محزونون متحيرون آيسون من الفرح .

قوله : فقطع دابر القوم الذين ظلموا الدابر : الآخر ، يقال : دبر القوم يدبرهم دبرا : إذا كان آخرهم في المجيء ، والمعنى : أنه قطع آخرهم : أي استؤصلوا جميعا حتى آخرهم .

قال قطرب : يعني أنهم استؤصلوا وأهلكوا .

قال أمية بن أبي الصلت :


فأهلكوا بعذاب حص دابرهم     فما استطاعوا له صرفا ولا انتصروا

ومنه التدبير لأنه إحكام عواقب الأمور .

قوله : والحمد لله رب العالمين أي على هلاكهم ، وفيه تعليم للمؤمنين كيف يحمدونه سبحانه عند نزول النعم التي من أجلها هلاك الظلمة الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون فإنهم أشد على عباد الله من كل شديد .

اللهم أرح عبادك المؤمنين من ظلم الظالمين واقطع دابرهم وأبدلهم بالعدل الشامل لهم .

وقد أخرج أبو الشيخ ، عن سعيد بن جبير ، في قوله : فأخذناهم بالبأساء والضراء قال : خوف السلطان وغلاء السعر .

وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس ، في قوله : فلما نسوا ما ذكروا به قال : يعني تركوا ما ذكروا به .

وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، عن ابن جريج : فلما نسوا ما ذكروا به قال : ما دعاهم الله إليه ورسله أبوه وردوه عليهم .

وأخرج ابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن مجاهد في قوله : فتحنا عليهم أبواب كل شيء قال : رخاء الدنيا ويسرها .

وأخرج عبد الرزاق ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن قتادة ، نحوه .

وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن السدي ، في قوله : حتى إذا فرحوا بما أوتوا قال : من الرزق أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون قال : مهلكون متغير حالهم فقطع دابر القوم الذين ظلموا يقول : فقطع أصل الذين ظلموا .

وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن محمد بن النضر الحارثي في قوله : أخذناهم بغتة قال : أمهلوا عشرين سنة ، ولا يخفى أن هذا مخالف لمعنى البغتة [ ص: 420 ] لغة ومحتاج إلى نقل عن الشارع وإلا فهو كلام لا طائل تحته .

وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن ابن زيد قال : المبلس : المجهود المكروب الذي قد نزل به الشر الذي لا يدفعه ، والمبلس أشد من المستكين ، وفي قوله : فقطع دابر القوم الذين ظلموا قال : استؤصلوا .

التالي السابق


الخدمات العلمية