وترى الشمس إذا طلعت تزاور عن كهفهم ذات اليمين وإذا غربت تقرضهم ذات الشمال وهم في فجوة منه ذلك من آيات الله من يهد الله فهو المهتدي ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا وتحسبهم أيقاظا وهم رقود ونقلبهم ذات اليمين وذات الشمال وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد لو اطلعت عليهم لوليت منهم فرارا ولملئت منهم رعبا وكذلك بعثناهم ليتساءلوا بينهم قال قائل منهم كم لبثتم قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم قالوا ربكم أعلم بما لبثتم فابعثوا أحدكم بورقكم هذه إلى المدينة فلينظر أيها أزكى طعاما فليأتكم برزق منه وليتلطف ولا يشعرن بكم أحدا إنهم إن يظهروا عليكم يرجموكم أو يعيدوكم في ملتهم ولن تفلحوا إذا أبدا .
قوله :
وترى الشمس إذا طلعت شرع سبحانه في بيان حالهم بعد ما أووا إلى الكهف
تزاور قرأ
أهل الكوفة بحذف تاء التفاعل ، وقرأ
ابن عامر ( تزور ) قال
الأخفش : لا يوضع الازورار في هذا المعنى ، إنما يقال : هو مزور عني : أي : منقبض .
وقرأ الباقون بتشديد الزاي وإدغام تاء التفاعل فيه بعد تسكينها ، وتزاور مأخوذ من الزور بفتح الواو ، وهو الميل ، ومنه زاره : إذا مال إليه ، والزور الميل ، فمعنى الآية : أن الشمس إذا طلعت تميل وتنتحي
عن كهفهم قال الراجز
الكلبي : جاب المندا عن هوانا أزور أي : مائل ذات اليمين أي : ناحية اليمين ، وهي الجهة المسماة باليمين ، وانتصاب ( ذات ) على الظرف ،
وإذا غربت تقرضهم القرض : القطع .
قال
nindex.php?page=showalam&ids=15080الكسائي والأخفش nindex.php?page=showalam&ids=14416والزجاج وأبو عبيدة : تعدل عنهم وتتركهم . قرضت المكان : عدلت عنه ، تقول لصاحبك : هل وردت مكان كذا ؟ فيقول : إنما قرضته : إذا مر به وتجاوز عنه ، والمعنى : أن الشمس إذا طلعت مالت عن كهفهم ذات اليمين أي : يمين الكهف ، وإذا غربت تمر
ذات الشمال أي : شمال الكهف لا تصيبه .
بل تعدل عن سمته إلى الجهتين ، والفجوة المكان المتسع ، وجملة
وهم في فجوة منه في محل نصب على الحال ، وللمفسرين في تفسير هذه الجملة قولان : الأول : أنهم مع كونهم في مكان منفتح انفتاحا واسعا في ظل جميع نهارهم ، لا تصيبهم الشمس في طلوعها ولا في غروبها ؛ لأن الله سبحانه حجبها عنهم .
والثاني : أن باب ذلك الكهف كان مفتوحا إلى جانب الشمال ، فإذا طلعت الشمس كانت عن يمين الكهف ، وإذا غربت كانت عن يساره ، ويؤيد القول الأول قوله :
ذلك من آيات الله فإن صرف الشمس عنهم مع توجه الفجوة إلى مكان تصل إليه عادة أنسب بمعنى كونها آية ، ويؤيده أيضا
[ ص: 853 ] إطلاق الفجوة وعدم تقييدها بكونها إلى جهة كذا ، ومما يدل على أن الفجوة المكان الواسع قول الشاعر :
ألبست قومك مخزاة ومنقصة حتى أبيحوا وخلوا فجوة الدار
ثم أثنى سبحانه عليهم بقوله :
من يهد الله أي : إلى الحق
فهو المهتد الذي ظفر بالهدى وأصاب الرشد والفلاح
ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا أي : ناصرا يهديه إلى الحق
كدقيانوس وأصحابه .
ثم حكى سبحانه طرفا آخر من غرائب أحوالهم فقال :
وتحسبهم أيقاظا جمع يقظ بكسر القاف وفتحها
وهم رقود أي : نيام ، وهو جمع راقد كقعود في قاعد .
قيل : وسبب هذا الحسبان أن عيونهم كانت مفتحة وهم نيام .
وقال
nindex.php?page=showalam&ids=14416الزجاج : لكثرة تقلبهم
ونقلبهم ذات اليمين وذات الشمال أي : نقلبهم في رقدتهم إلى الجهتين ؛ لئلا تأكل الأرض أجسادهم
وكلبهم باسط ذراعيه حكاية حال ماضية ؛ لأن اسم الفاعل لا يعمل إذا كان بمعنى المضي كما تقرر في علم النحو .
قال أكثر المفسرين : هربوا من ملكهم ليلا ، فمروا براع معه كلب فتبعهم .
و ( الوصيد ) ، قال
أبو عبيد وأبو عبيدة هو فناء الباب ، وكذا قال المفسرون ، وقيل : العتبة ، ورد بأن الكهف لا يكون له عتبة ولا باب ، وإنما أراد أن الكلب موضع العتبة من البيت
لو اطلعت عليهم لوليت منهم فرارا قال
nindex.php?page=showalam&ids=14416الزجاج : ( فرارا ) منصوب على المصدرية بمعنى التولية ، والفرار : الهرب
ولملئت قرئ بتشديد اللام وتخفيفها
منهم رعبا قرئ بسكون العين وضمها أي : خوفا يملأ الصدر ، وانتصاب رعبا على التمييز ، أو على أنه مفعول ثان ، وسبب الرعب
الهيبة التي ألبسهم الله إياها ، وقيل : طول أظفارهم وشعورهم ، وعظم أجرامهم ووحشة مكانهم ، ويدفعه قوله تعالى :
لبثنا يوما أو بعض يوم فإن ذلك يدل على أنهم لم ينكروا من حالهم شيئا ، ولا وجدوا من أظفارهم وشعورهم ما يدل على طول المدة .
وكذلك بعثناهم ليتساءلوا بينهم الإشارة إلى المذكور قبله أي : وكما فعلنا بهم ما فعلنا من الكرامات بعثناهم من نومهم ، وفيه تذكير
لقدرته على الإماتة والبعث جميعا ، ثم ذكر الأمر الذي لأجله بعثهم فقال : ليتساءلوا بينهم . أي : ليقع التساؤل بينهم والاختلاف والتنازع في مدة اللبث لما يترتب على ذلك من انكشاف الحال وظهور القدرة الباهرة ، والاقتصار على علة التساؤل لا ينفي غيرها ، وإنما أفرده لاستتباعه لسائر الآثار ، وجملة :
قال قائل منهم كم لبثتم مبينة لما قبلها من التساؤل أي : كم مدة لبثكم في النوم ؟ قالوا ذلك لأنهم رأوا في أنفسهم غير ما يعهدونه في العادة
قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم أي : قال بعضهم جوابا عن سؤال من سأل منهم ، قال المفسرون : إنهم دخلوا الكهف غدوة ، وبعثهم الله سبحانه آخر النهار ، فلذلك قالوا : يوما ، فلما رأوا الشمس قالوا : أو بعض يوم ، وكان قد بقيت بقية من النهار ، وقد مر مثل هذا الجواب في قصة
عزير في البقرة
قالوا ربكم أعلم بما لبثتم أي : قال البعض الآخر هذا القول : إما على طريق الاستدلال ، أو كان ذلك إلهاما لهم من الله سبحانه أي : أنكم لا تعلمون مدة لبثكم ، وإنما يعلمها الله سبحانه
فابعثوا أحدكم بورقكم هذه إلى المدينة أعرضوا عن التحاور في مدة اللبث ، وأخذوا في شيء آخر ، كأنه قال القائل منهم : اتركوا ما أنتم فيه من المحاورة ، وخذوا في شيء آخر مما يهمكم ، والفاء للسببية ، والورق الفضة مضروبة أو غير مضروبة .
وقرأ
ابن كثير ونافع وابن عامر nindex.php?page=showalam&ids=15080والكسائي وحفص ، عن
عاصم بكسر الراء ، وقرأ
أبو عمرو وحمزة ، وأبو بكر ، عن
عاصم بسكونها ، وقرئ بكسر الراء وإدغام القاف في الكاف ، وقرأ
ابن محيصن بكسر الواو وسكون الراء .
وفي حملهم لهذه الورق معهم دليل على أن
إمساك بعض ما يحتاج إليه الإنسان لا ينافي التوكل على الله ، و ( المدينة )
دقسوس ، وهي مدينتهم التي كانوا فيها ، ويقال لها اليوم :
طرسوس ، كذا قال
الواحدي فلينظر أيها أزكى طعاما أي : ينظر أي أهلها أطيب طعاما ، وأحل مكسبا ، أو أرخص سعرا ، وقيل : يجوز أن يعود الضمير إلى الأطعمة المدلول عليها في المقام كما يقال : زيد طبت أبا . على أن الأب هو زيد ، وفيه بعد .
واستدل بالآية على
حل ذبائح أهل الكتاب ؛ لأن عامة أهل المدينة كانوا كفارا ، وفيهم قوم يخفون إيمانهم ، ووجه الاستدلال أن الطعام يتناول اللحم كما يتناول غيره مما يطلق عليه اسم الطعام
وليتلطف أي : يدقق النظر حتى لا يعرف أو لا يغبن ، والأولى أولى ، ويؤيده
ولا يشعرن بكم أحدا أي : لا يفعلن ما يؤدي إلى الشعور ويتسبب له ، فهذا النهي يتضمن التأكيد للأمر بالتلطف .
ثم علل ما سبق من الأمر والنهي فقال :
إنهم إن يظهروا عليكم أي : يطلعوا عليكم ويعلموا بمكانكم ، يعني أهل المدينة
يرجموكم يقتلوكم بالرجم ، وهذه القتلة هي أخبث قتلة ، فإن ذلك كان عادة لهم ، ولهذا خصه من بين أنواع ما يقع به القتل
أو يعيدوكم في ملتهم أي : يردوكم إلى ملتهم التي كنتم عليها قبل أن يهديكم الله ، أو المراد بالعود هنا الصيرورة على تقدير أنهم لم يكونوا على ملتهم ، وإيثار كلمة ( في ) على كلمة ( إلى ) للدلالة على الاستقرار
ولن تفلحوا إذا أبدا في ( إذا ) معنى الشرط ، كأنه قال : إن رجعتم إلى دينهم فلن تفلحوا إذا أبدا ، لا في الدنيا ولا في الآخرة .
وقد أخرج
nindex.php?page=showalam&ids=16935ابن جرير وابن المنذر nindex.php?page=showalam&ids=16328وابن أبي حاتم عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس في قوله :
تزاور قال : تميل ، وفي قوله :
تقرضهم قال : تذرهم .
وأخرج
nindex.php?page=showalam&ids=12508ابن أبي شيبة وابن المنذر nindex.php?page=showalam&ids=16328وابن أبي حاتم عن
مجاهد في قوله :
تقرضهم قال : تتركهم
وهم في فجوة منه قال : المكان الداخل .
وأخرج
nindex.php?page=showalam&ids=16328ابن أبي حاتم عن
nindex.php?page=showalam&ids=15992سعيد بن جبير ، قال : الفجوة : الخلوة من الأرض ، ويعني بالخلوة الناحية من الأرض .
وأخرج
nindex.php?page=showalam&ids=16328ابن أبي حاتم وابن مردويه ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس في قوله :
ونقلبهم الآية قال : ستة أشهر على ذي الجنب اليمين ، وستة أشهر على ذي الجنب الشمال .
وأخرج
nindex.php?page=showalam&ids=16000سعيد بن منصور وابن المنذر ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=15992سعيد بن جبير في الآية قال : كي لا تأكل الأرض
[ ص: 854 ] لحومهم .
وأخرج
nindex.php?page=showalam&ids=16328ابن أبي حاتم عن
مجاهد أن اسم كلبهم قطمير .
وأخرج
nindex.php?page=showalam&ids=16328ابن أبي حاتم ، عن
الحسن قال : اسمه قطمير .
وأخرج
nindex.php?page=showalam&ids=16935ابن جرير وابن المنذر nindex.php?page=showalam&ids=16328وابن أبي حاتم من طرق ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس في قوله :
بالوصيد قال : بالفناء .
وأخرج
nindex.php?page=showalam&ids=16935ابن جرير وابن المنذر عنه قال : بالباب .
وأخرج
nindex.php?page=showalam&ids=16000سعيد بن منصور وابن المنذر nindex.php?page=showalam&ids=16328وابن أبي حاتم عنه أيضا في قوله :
أزكى طعاما قال : أحل ذبيحة ، وكانوا يذبحون للطواغيت .
وأخرج
nindex.php?page=showalam&ids=12508ابن أبي شيبة وابن المنذر nindex.php?page=showalam&ids=16328وابن أبي حاتم عنه
أزكى طعاما : يعني أطهر ؛ لأنهم كانوا يذبحون للطواغيت .