وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته والله عليم حكيم ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم وإن الظالمين لفي شقاق بعيد وليعلم الذين أوتوا العلم أنه الحق من ربك فيؤمنوا به فتخبت له قلوبهم وإن الله لهادي الذين آمنوا إلى صراط مستقيم ولا يزال الذين كفروا في مرية منه حتى تأتيهم الساعة بغتة أو يأتيهم عذاب يوم عقيم الملك يومئذ لله يحكم بينهم فالذين آمنوا وعملوا الصالحات في جنات النعيم والذين كفروا وكذبوا بآياتنا فأولئك لهم عذاب مهين .
قوله :
من رسول ولا نبي قيل الرسول الذي أرسل إلى الخلق بإرسال
جبريل إليه عيانا ومحاورته شفاها ، والنبي الذي يكون إلهاما أو مناما .
وقيل :
الرسول من بعث بشرع وأمر بتبليغه ، والنبي من أمر أن يدعو إلى شريعة من قبله ، ولم ينزل عليه كتاب ، ولا بد لهما جميعا من المعجزة الظاهرة
إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته معنى تمنى : تشهى وهيأ في نفسه ما يهواه .
قال
الواحدي : وقال المفسرون : معنى تمنى تلا .
قال جماعة المفسرين في سبب نزول هذه الآية : أنه - صلى الله عليه وآله وسلم - لما شق عليه إعراض قومه عنه تمنى في نفسه أن لا ينزل عليه شيء ينفرهم عنه لحرصه على إيمانهم ، فكان ذات يوم جالسا في ناد من أنديتهم وقد نزل عليه سورة ( والنجم إذا هوى ) [ النجم : 1 ] فأخذ يقرؤها عليهم حتى بلغ قوله :
أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى [ النجم : 19 - 20 ] وكان ذلك التمني في نفسه ، فجرى على لسانه مما ألقاه الشيطان عليه : تلك الغرانيق العلى ، وإن شفاعتها لترتجى فلما سمعت
قريش ذلك فرحوا ومضى رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - في قراءته حتى ختم السورة ، فلما سجد في آخرها سجد معه جميع من في النادي من المسلمين والمشركين ، فتفرقت
قريش مسرورين بذلك قالوا : قد ذكر
محمد آلهتنا بأحسن الذكر ، فأتاه
جبريل فقال : ما صنعت ؟ تلوت على الناس ما لم آتك به عن الله ، فحزن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - وخاف خوفا شديدا ، فأنزل الله هذه الآية ، هكذا قالوا .
ولم يصح شيء من هذا ، ولا ثبت بوجه من الوجوه ، ومع عدم صحته بل بطلانه فقد دفعه المحققون بكتاب الله سبحانه ، قال الله :
ولو تقول علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين [ الحاقة : 44 - 46 ]
[ ص: 970 ] وقوله :
وما ينطق عن الهوى [ النجم : 3 ] وقوله :
ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم [ الإسراء : 74 ] فنفى المقاربة للركون فضلا عن الركون .
قال
البزار : هذا حديث لا نعلمه يروى عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - بإسناد متصل .
وقال
البيهقي : هذه القصة غير ثابتة من جهة النقل ، ثم أخذ يتكلم أن رواة هذه القصة مطعون فيهم .
وقال إمام الأئمة
nindex.php?page=showalam&ids=13114ابن خزيمة : إن هذه القصة من وضع
الزنادقة .
قال
nindex.php?page=showalam&ids=14961القاضي عياض في الشفاء : إن الأمة أجمعت فيما طريقه البلاغ أنه معصوم فيه من الإخبار عن شيء بخلاف ما هو عليه ، لا قصدا ولا عمدا ولا سهوا ولا غلطا .
قال
ابن كثير : قد ذكر كثير من المفسرين هاهنا قصة الغرانيق ، وما كان من رجوع كثير من
المهاجرين إلى أرض
الحبشة ظنا منهم أن مشركي
قريش قد أسلموا ، ولكنها من طرق كلها مرسلة ، ولم أرها مسندة من وجه صحيح .
وإذا تقرر لك بطلان ذلك عرفت أن معنى تمنى قرأ وتلا كما قدمنا من حكاية
الواحدي لذلك عن المفسرين .
وكذا قال
البغوي : إن أكثر المفسرين قالوا معنى تمنى تلا وقرأ كتاب الله ، ومعنى
ألقى الشيطان في أمنيته أي في تلاوته وقراءته .
قال
nindex.php?page=showalam&ids=16935ابن جرير : هذا القول أشبه بتأويل الكلام ، ويؤيد هذا ما تقدم في تفسير قوله :
لا يعلمون الكتاب إلا أماني [ البقرة : 78 ] وقيل : معنى تمنى حدث ، ومعنى
ألقى الشيطان في أمنيته في حديثه ، روي هذا عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس . وقيل : معنى تمنى قال .
فحاصل معنى الآية : أن الشيطان أوقع في مسامع المشركين ذلك من دون أن يتكلم به رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ولا جرى على لسانه ، فتكون هذه الآية تسلية لرسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - أي لا يهولنك ذلك ولا يحزنك ، فقد أصاب مثل هذا من قبلك من المرسلين والأنبياء ، وعلى تقدير أن معنى تمنى حدث نفسه كما حكاه
الفراء nindex.php?page=showalam&ids=15080والكسائي فإنهما قالا : تمنى إذا حدث نفسه ، فالمعنى : أنه إذا حدث نفسه بشيء تكلم به الشيطان وألقاه في مسامع الناس من دون أن يتكلم به رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ولا جرى على لسانه .
قال
ابن عطية : لا خلاف أن إلقاء الشيطان إنما هو لألفاظ مسموعة وقعت بها الفتنة .
وقد قيل في تأويل الآية : إن المراد بالغرانيق الملائكة ، ويرد بقوله :
فينسخ الله ما يلقي الشيطان أي يبطله ،
وشفاعة الملائكة غير باطلة .
وقيل : إن ذلك جرى على لسانه - صلى الله عليه وآله وسلم - سهوا ونسيانا وهما مجوزان على الأنبياء ، ويرد بأن
السهو والنسيان فيما طريقه البلاغ غير جائز كما هو مقرر في مواطنه ، ثم لما سلاه الله سبحانه بهذه التسلية وأنها قد وقعت لمن قبله من الرسل والأنبياء بين سبحانه أنه يبطل ذلك ولا يثبته ولا يستمر تغرير الشيطان به فقال :
فينسخ الله ما يلقي الشيطان أي يبطله ويجعله ذاهبا غير ثابت
ثم يحكم الله آياته أي يثبتها
والله عليم حكيم أي كثير العلم والحكمة في كل أقواله وأفعاله .
وجملة
ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة للتعليل أي : ذلك الإلقاء الذي يلقيه الشيطان فتنة أي : ضلالة
للذين في قلوبهم مرض أي شك ونفاق
والقاسية قلوبهم هم المشركون ، فإن قلوبهم لا تلين للحق أبدا ولا ترجع إلى الصواب بحال ، ثم سجل سبحانه على هاتين الطائفتين : وهما من في قلبه مرض ، ومن في قلبه قسوة بأنهم ظالمون فقال :
وإن الظالمين لفي شقاق بعيد أي عداوة شديدة ، ووصف الشقاق بالبعد مبالغة ، والموصوف به في الحقيقة من قام به .
ولما بين سبحانه أن ذلك الإلقاء كان فتنة في حق أهل النفاق والشك والشرك ، بين أنه في حق المؤمنين العالمين بالله العارفين به سبب لحصول العلم لهم بأن
القرآن حق وصدق فقال :
وليعلم الذين أوتوا العلم أنه الحق من ربك أي الحق النازل من عنده ، وقيل : إن الضمير في أنه راجع إلى تمكين الشيطان من الإلقاء ؛ لأنه مما جرت به عادته من أنبيائه ، ولكنه يرد هذا قوله : فيؤمنوا به فإن المراد بالإيمان بالقرآن أي : يثبتوا على الإيمان به
فتخبت له قلوبهم أي تخشع وتسكن وتنقاد ، فإن الإيمان به وإخبات القلوب له لا يمكن أن يكونا تمكينا من الشيطان بل للقرآن
وإن الله لهادي الذين آمنوا في أمور دينهم
إلى صراط مستقيم أي طريق صحيح لا عوج به .
وقرأ
أبو حيوة ( وإن الله لهاد الذين آمنوا ) بالتنوين .
ولا يزال الذين كفروا في مرية منه أي في شك من القرآن ، وقيل : في الدين الذي يدل عليه ذكر الصراط المستقيم ، وقيل : في إلقاء الشيطان ، فيقولون : ما باله ذكر الأصنام بخير ثم رجع عن ذلك ؟ وقرأ
nindex.php?page=showalam&ids=14510أبو عبد الرحمن السلمي ( في مرية ) بضم الميم
حتى تأتيهم الساعة أي القيامة بغتة أي فجأة
أو يأتيهم عذاب يوم عقيم وهو يوم القيامة ؛ لأنه لا يوم بعده ، فكان بهذا الاعتبار عقيما ، والعقيم في اللغة من لا يكون له ولد ، ولما كانت الأيام تتوالى جعل ذلك كهيئة الولادة ، ولما لم يكن بعد ذلك اليوم يوم وصف بالعقم ، وقيل : يوم حرب يقتلون فيه كيوم بدر ، وقيل : إن اليوم وصف بالعقم ؛ لأنه لا رأفة فيه ولا رحمة ، فكأنه عقيم من الخير ، ومنه قوله تعالى :
إذ أرسلنا عليهم الريح العقيم [ الذاريات : 41 ] أي التي لا خير فيها ولا تأتي بمطر .
الملك يومئذ لله أي
السلطان القاهر والاستيلاء التام : يوم القيامة لله سبحانه وحده لا منازع له فيه ولا مدافع له عنه ، وجملة يحكم بينهم مستأنفة جوابا عن سؤال مقدر ، ثم فسر هذا الحكم بقوله سبحانه :
فالذين آمنوا وعملوا الصالحات في جنات النعيم أي كائنون فيها مستقرون في أرضها منغمسون في نعيمها .
والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أي جمعوا بين الكفر بالله والتكذيب بآياته
فأولئك لهم عذاب مهين أي عذاب متصف بأنه مهين للمعذبين بالغ منهم المبلغ العظيم .
وقد أخرج
nindex.php?page=showalam&ids=16298عبد بن حميد nindex.php?page=showalam&ids=12590وابن الأنباري في المصاحف عن
nindex.php?page=showalam&ids=16705عمرو بن دينار قال : كان
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس يقرأ ( وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي ولا محدث ) .
وأخرج
nindex.php?page=showalam&ids=16328ابن أبي حاتم عن
nindex.php?page=showalam&ids=15975سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف مثله ،
[ ص: 971 ] وزاد فنسخت محدث ، قال : والمحدثون : صاحب يس ،
ولقمان ، ومؤمن آل فرعون ، وصاحب
موسى .
وأخرج
البزار nindex.php?page=showalam&ids=14687والطبراني وابن مردويه والضياء في المختارة . قال
السيوطي بسند رجاله ثقات
nindex.php?page=showalam&ids=15992من طريق سعيد بن جبير عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=1020874إن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - قرأ أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى [ النجم : 19 - 20 ] ، تلك الغرانيق العلى ، وإن شفاعتهن لترتجى . ففرح المشركون بذلك وقالوا : قد ذكر آلهتنا ، فجاءه جبريل فقال : اقرأ علي ما جئت به ، فقرأ : أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى ، تلك الغرانيق العلى ، وإن شفاعتهن لترتجى ، فقال : ما أتيتك بهذا ، هذا من الشيطان ، فأنزل الله وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى الآية .
وأخرج
nindex.php?page=showalam&ids=16935ابن جرير وابن المنذر nindex.php?page=showalam&ids=16328وابن أبي حاتم ، قال
السيوطي بسند صحيح عن
nindex.php?page=showalam&ids=15992سعيد بن جبير ، قال : قرأ رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -
بمكة النجم ، فذكر نحوه ، ولم يذكر
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس .
وكذا رواه
nindex.php?page=showalam&ids=16328ابن أبي حاتم عن
أبي العالية والسدي عن
سعيد مرسلا .
ورواه
nindex.php?page=showalam&ids=16298عبد بن حميد عن
nindex.php?page=showalam&ids=14468السدي عن
أبي صالح مرسلا .
ورواه
nindex.php?page=showalam&ids=16328ابن أبي حاتم عن
nindex.php?page=showalam&ids=13283ابن شهاب مرسلا .
وأخرج
nindex.php?page=showalam&ids=16935ابن جرير عن
nindex.php?page=showalam&ids=11947أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام نحوه مرسلا أيضا .
والحاصل أن جميع الروايات في هذا الباب إما مرسلة أو منقطعة لا تقوم الحجة بشيء منها .
وقد أسلفنا عن الحفاظ في أول هذا البحث ما فيه كفاية ، وفي الباب روايات من أحب الوقوف على جميعها فلينظرها في الدر المنثور
للسيوطي ، ولا يأتي التطويل بذكرها هنا بفائدة ، فقد عرفناك أنها جميعها لا تقوم بها الحجة .
وأخرج
nindex.php?page=showalam&ids=16935ابن جرير وابن المنذر nindex.php?page=showalam&ids=16328وابن أبي حاتم عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته يقول إذا حدث ألقى الشيطان في حديثه .
وأخرج
nindex.php?page=showalam&ids=16328ابن أبي حاتم عن
الضحاك ، قال : يعني بالتمني التلاوة والقراءة ، ألقى الشيطان في أمنيته : في تلاوته
فينسخ الله ينسخ جبريل بأمر الله ما ألقى الشيطان على لسان النبي .
وأخرج
nindex.php?page=showalam&ids=16298عبد بن حميد nindex.php?page=showalam&ids=16328وابن أبي حاتم عن
مجاهد إذا تمنى قال : تكلم في أمنيته قال : كلامه .
وأخرج
ابن مردويه والضياء في المختارة عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس في قوله :
عذاب يوم عقيم قال يوم بدر .
وأخرج
ابن مردويه عن
nindex.php?page=showalam&ids=34أبي بن كعب نحوه .
وأخرج
nindex.php?page=showalam&ids=16298عبد بن حميد وابن المنذر nindex.php?page=showalam&ids=16328وابن أبي حاتم عن
nindex.php?page=showalam&ids=15992سعيد بن جبير : عذاب يوم عقيم ، قال يوم بدر .
وأخرج
nindex.php?page=showalam&ids=16328ابن أبي حاتم عن
nindex.php?page=showalam&ids=15992سعيد بن جبير وعكرمة مثله .
وأخرج
nindex.php?page=showalam&ids=16328ابن أبي حاتم عن
مجاهد في الآية قال : يوم القيامة لا ليلة له .
وأخرج
nindex.php?page=showalam&ids=16298عبد بن حميد وابن المنذر nindex.php?page=showalam&ids=16328وابن أبي حاتم عن
nindex.php?page=showalam&ids=15992سعيد بن جبير مثله .
وأخرج
nindex.php?page=showalam&ids=16298عبد بن حميد nindex.php?page=showalam&ids=16328وابن أبي حاتم عن
الضحاك مثله .