وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا بلدا آمنا وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر قال ومن كفر فأمتعه قليلا ثم أضطره إلى عذاب النار وبئس المصير وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك وأرنا مناسكنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم
قوله : عهدنا معناه هنا : أمرنا وأوجبنا .
وقوله :
أن طهرا في موضع نصب بنزع الخافض ، أي بأن طهرا قاله الكوفيون ، وقال
nindex.php?page=showalam&ids=16076سيبويه : هو بتقدير ( أي ) المفسرة ، أي أن طهرا . فلا موضع لها من الإعراب ، والمراد بالتطهير قيل : من الأوثان ، وقيل : من الآفات والريب ، وقيل : من الكفار ، وقيل : من النجاسات وطواف الجنب والحائض وكل خبيث .
والظاهر أنه لا يختص بنوع من هذه الأنواع ، وأن كل ما يصدق عليه مسمى التطهير فهو يتناوله إما تناولا شموليا أو بدليا ، والإضافة في قوله : بيتي للتشريف والتكريم ، وقرأ
الحسن وابن أبي إسحاق وأهل المدينة وهشام وحفص " بيتي " بفتح الياء ، وقرأ الآخرون بإسكانها .
والطائف : الذي يطوف به ، وقيل : الغريب الطارئ على
مكة .
والعاكف : المقيم : وأصل العكوف في اللغة : اللزوم والإقبال على الشيء ، وقيل : هو المجاور دون المقيم من أهلها .
والمراد بقوله :
الركع السجود المصلون ، وخص هذين الركنين بالذكر لأنهما أشرف أركان الصلاة .
وقوله :
وإذ قال إبراهيم ستأتي الأحاديث الدالة على أن
إبراهيم هو الذي حرم
مكة ، والأحاديث الدالة على أن الله حرمها يوم خلق السماوات والأرض والجمع بين هذه الأحاديث في هذا البحث .
وقوله :
بلدا آمنا أي
مكة ، والمراد : الدعاء لأهله من ذريته وغيرهم كقوله :
عيشة راضية أي راض صاحبها .
وقوله :
من آمن بدل من قول : ( أهله ) ، أي ارزق من آمن من أهله دون من كفر .
وقوله :
ومن كفر الظاهر أن هذا من كلام الله سبحانه ردا على
إبراهيم حيث طلب الرزق للمؤمنين دون غيرهم ، أي وأرزق من كفر فأمتعه بالرزق قليلا ثم أضطره إلى عذاب النار ، ويحتمل أن يكون كلاما مستقلا بيانا لحال من كفر ، ويكون في حكم الإخبار عن حال الكافرين بهذه الجملة الشرطية ، أي من كفر فإني أمتعه في هذه الدنيا بما يحتاجه من الرزق
ثم أضطره بعد هذا التمتيع
إلى عذاب النار فأخبر سبحانه أنه لا ينال الكفرة من الخير إلا تمتيعهم في هذه الدنيا ، وليس لهم بعد ذلك إلا ما هو شر محض وهو عذاب النار ، وأما على قراءة من قرأ " فأمتعه " بصيغة الأمر وكذلك قوله : " ثم اضطره " بصيغة الأمر فهي مبنية على أن ذلك من جملة كلام
إبراهيم ، وأنه لما فرغ من الدعاء للمؤمنين دعا للكافرين بالإمتاع قليلا ، ثم دعا عليهم بأن يضطرهم إلى عذاب النار .
ومعنى : ( اضطره ) ألزمه حتى صيره مضطرا لذلك لا يجد عنه مخلصا ، ولا منه متحولا .
قوله :
وإذ يرفع هو حكاية لحال ماضية استحضارا لصورتها العجيبة .
والقواعد : الأساس ، قاله
أبو عبيدة nindex.php?page=showalam&ids=14888والفراء .
وقال
nindex.php?page=showalam&ids=15080الكسائي : هي الجدر .
والمراد برفعها رفع ما هو مبني فوقها لا رفعها في نفسها فإنها لم ترتفع ، لكنها لما كانت متصلة بالبناء المرتفع فوقها صارت كأنها مرتفعة بارتفاعه ، كما يقال ارتفع البناء ، ولا يقال ارتفع أعالي البناء ولا أسافله .
قوله :
ربنا تقبل منا في محل الحال بتقدير القول ، أي قائلين ربنا .
وقرأ
أبي nindex.php?page=showalam&ids=10وابن مسعود " وإذ يرفع
إبراهيم القواعد من البيت
وإسماعيل ويقولان ربنا تقبل منا " .
وقوله :
واجعلنا مسلمين لك أي اجعلنا ثابتين عليه أو زدنا منه ، قيل : المراد بالإسلام هنا مجموع الإيمان والأعمال .
وقوله :
ومن ذريتنا أي واجعل من ذريتنا ، ومن للتبعيض أو للتبيين .
وقال
nindex.php?page=showalam&ids=16935ابن جرير : إنه أراد بالذرية العرب خاصة ، وكذا قال
السهيلي .
قال
ابن عطية : وهذا ضعيف لأن دعوته ظهرت في العرب وغيرهم من الذين آمنوا به .
والأمة : الجماعة في هذا الموضع ، وقد تطلق على الواحد ، ومنه قوله تعالى :
إن إبراهيم كان أمة قانتا لله وتطلق على الدين ، ومنه
إنا وجدنا آباءنا على أمة وتطلق على الزمان ، ومنه :
وادكر بعد أمة .
وقوله :
وأرنا مناسكنا هي من الرؤية البصرية .
وقرأ
nindex.php?page=showalam&ids=16673عمر بن عبد العزيز وقتادة وابن [ ص: 94 ] كثير وابن محيصن وغيرهم " أرنا " بسكون الراء ، ومنه قول الشاعر :
أرنا إداوة عبد الله يملؤها من ماء زمزم إن القوم قد ظمئوا
والمناسك جمع نسك ، وأصله في اللغة الغسل ، يقال : نسك ثوبه : إذا غسله .
وهو في الشرع اسم للعبادة ، والمراد هنا مناسك الحج ، وقيل : مواضع الذبح ، وقيل : جميع المتعبدات .
وقوله :
وتب علينا قيل : المراد بطلبهما للتوبة التثبيت ، لأنهما معصومان لا ذنب لهما ، وقيل : المراد تب على الظلمة منا .
وقد أخرج
nindex.php?page=showalam&ids=16935ابن جرير عن
عطاء قال :
وعهدنا إلى إبراهيم أي أمرناه .
وأخرج
nindex.php?page=showalam&ids=16328ابن أبي حاتم عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس في قوله :
أن طهرا بيتي قال : من الأوثان .
وأخرج أيضا عن
مجاهد nindex.php?page=showalam&ids=15992وسعيد بن جبير مثله ، وزادوا : الريب وقول الزور والرجس .
وأخرج
nindex.php?page=showalam&ids=16298عبد بن حميد nindex.php?page=showalam&ids=16935وابن جرير عن
قتادة نحوه .
وأخرج
nindex.php?page=showalam&ids=16328ابن أبي حاتم عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس قال : إذا كان قائما فهو من الطائفين ، وإذا كان جالسا فهو من العاكفين ، وإذا كان مصليا فهو من الركع السجود .
وأخرج
nindex.php?page=showalam&ids=16298عبد بن حميد nindex.php?page=showalam&ids=16328وابن أبي حاتم عن
nindex.php?page=showalam&ids=2عمر بن الخطاب أنه سئل عن الذين ينامون في المسجد فقال : هم العاكفون .
وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=1019468إن إبراهيم حرم مكة ، وإني حرمت المدينة ما بين لابتيها ، فلا يصاد صيدها ولا يقطع عضاهها أخرجه
أحمد ومسلم nindex.php?page=showalam&ids=15397والنسائي وغيرهم من حديث
جابر .
وقد روي هذا المعنى عن النبي صلى الله عليه وسلم من طريق جماعة من الصحابة ، منهم
nindex.php?page=showalam&ids=46رافع بن خديج عند
مسلم وغيره ، ومنهم
nindex.php?page=showalam&ids=60أبو قتادة عند
أحمد ، ومنهم
أنس عند الشيخين ، ومنهم
nindex.php?page=showalam&ids=3أبو هريرة عند
مسلم ، ومنهم
nindex.php?page=showalam&ids=8علي بن أبي طالب عند
nindex.php?page=showalam&ids=14687الطبراني في الأوسط ومنهم
nindex.php?page=showalam&ids=111أسامة بن زيد عند
أحمد nindex.php?page=showalam&ids=12070والبخاري ، ومنهم
عائشة عند
nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري .
وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=1019469إن الله حرم مكة يوم خلق السماوات والأرض وهي حرام إلى يوم القيامة .
أخرجه
nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري تعليقا ،
nindex.php?page=showalam&ids=13478وابن ماجه من حديث
nindex.php?page=showalam&ids=10941صفية بنت شيبة .
وأخرجه الشيخان وغيرهما من حديث
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس .
وأخرجه الشيخان وأهل السنن من حديث
nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة ، وفي الباب أحاديث غير ما ذكرنا ، ولا تعارض بين هذه الأحاديث ، فإن
إبراهيم عليه السلام لما بلغ الناس أن الله حرمها وأنها لم تزل حرما آمنا نسب إليه أنه حرمها ، أي أظهر للناس حكم الله فيها ، وإلى هذا الجمع ذهب
ابن عطية وابن كثير .
وقال
nindex.php?page=showalam&ids=16935ابن جرير : إنها كانت حراما ولم يتعبد الله الخلق بذلك حتى سأله
إبراهيم فحرمها وتعبدهم بذلك . انتهى .
وكلا الجمعين حسن .
وقد أخرج
nindex.php?page=showalam&ids=16935ابن جرير nindex.php?page=showalam&ids=16328وابن أبي حاتم عن
nindex.php?page=showalam&ids=17023محمد بن مسلم الطائفي قال : بلغني أنه لما دعا
إبراهيم للحرم فقال :
وارزق أهله من الثمرات نقل الله
الطائف من فلسطين .
وأخرج نحوه
nindex.php?page=showalam&ids=16328ابن أبي حاتم والأزرقي عن
nindex.php?page=showalam&ids=12300الزهري .
وأخرج نحوه أيضا
الأزرقي عن بعض ولد
nindex.php?page=showalam&ids=17193نافع بن جبير بن مطعم .
وقد أخرج
الأزرقي نحوها مرفوعا من طريق
nindex.php?page=showalam&ids=16920محمد بن المنكدر .
وأخرج أيضا عن
nindex.php?page=showalam&ids=14980محمد بن كعب القرظي قال : دعا
إبراهيم للمؤمنين وترك الكفار ولم يدع لهم بشيء ، قال الله :
ومن كفر فأمتعه الآية .
وأخرج نحوه
nindex.php?page=showalam&ids=16008سفيان بن عيينة عن
مجاهد .
وأخرج
nindex.php?page=showalam&ids=16328ابن أبي حاتم nindex.php?page=showalam&ids=14687والطبراني وابن مردويه عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس في قوله :
من آمن منهم بالله قال : كأن
إبراهيم احتجزها على المؤمنين دون الناس ، فأنزل الله
ومن كفر أيضا فأنا أرزقهم كما أرزق المؤمنين ، أخلق خلقا لا أرزقهم ؟ أمتعهم قليلا ثم أضطرهم إلى عذاب النار ، ثم قرأ ابن عباس :
كلا نمد هؤلاء وهؤلاء الآية .
وأخرج
nindex.php?page=showalam&ids=16935ابن جرير nindex.php?page=showalam&ids=16328وابن أبي حاتم عن
أبي العالية قال : قال
nindex.php?page=showalam&ids=34أبي بن كعب في قوله :
ومن كفر أن هذا من قول الرب .
وقال
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس : هذا من قول
إبراهيم يسأل ربه أن من كفر فأمتعه قليلا .
وأخرج
nindex.php?page=showalam&ids=16328ابن أبي حاتم عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس قال : القواعد أساس البيت .
وأخرج
أحمد ،
nindex.php?page=showalam&ids=16298وعبد بن حميد ،
nindex.php?page=showalam&ids=12070والبخاري ،
nindex.php?page=showalam&ids=16935وابن جرير ، وغيرهم ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=15992سعيد بن جبير قصة مطولة ، وآخرها في بناء البيت ، قال : فعند ذلك رفع
إبراهيم القواعد من البيت ، فجعل
إسماعيل يأتي بالحجارة
وإبراهيم يبني حتى إذا ارتفع البناء جاء بهذا الحجر فوضعه له ، فقام عليه وهو يبني
وإسماعيل يناوله الحجارة ، وهما يقولان :
ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم .
وأخرج
عبد الرزاق nindex.php?page=showalam&ids=16935وابن جرير وابن المنذر nindex.php?page=showalam&ids=16328وابن أبي حاتم عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس في قوله :
وإذ يرفع إبراهيم القواعد قال : القواعد التي كانت قواعد البيت قبل ذلك .
وقد أكثر المفسرون في تفسير هذه الآية من نقل أقوال السلف في كيفية بناء البيت ، ومن أي أحجار الأرض بني ، وفي أي زمان عرف ، ومن حجه ؟ وما ورد فيه من الأدلة الدالة على فضله أو فضل بعضه كالحجر الأسود .
وفي الدر المنثور من ذلك ما لم يكن في غيره فليرجع إليه ، وفي تفسير ابن كثير بعض من ذلك ، ولما لم يكن ما ذكروه متعلقا بالتفسير لم نذكره .
وأخرج
nindex.php?page=showalam&ids=16328ابن أبي حاتم عن
nindex.php?page=showalam&ids=16012سلام بن أبي مطيع في هذه الآية
ربنا واجعلنا مسلمين لك قال : كانا مسلمين ولكن سألاه الثبات .
وأخرج
nindex.php?page=showalam&ids=16328ابن أبي حاتم عن
عبد الكريم ، قال : مخلصين .
وأخرج
nindex.php?page=showalam&ids=16935ابن جرير nindex.php?page=showalam&ids=16328وابن أبي حاتم عن
nindex.php?page=showalam&ids=14468السدي في قوله :
ومن ذريتنا قال : يعنيان العرب .
وأخرج
nindex.php?page=showalam&ids=16000سعيد بن منصور nindex.php?page=showalam&ids=16328وابن أبي حاتم عن
مجاهد قال : قال
إبراهيم رب أرنا مناسكنا ، فأتاه
جبريل فأتى به البيت فقال : ارفع القواعد ، فرفع القواعد وأتم البنيان ، ثم أخذ بيده فأخرجه فانطلق به نحو
منى ، فلما كان عند
العقبة فإذا إبليس قائم عند الشجرة ، فقال : كبر وارمه ، فكبر ورماه ، فذهب إبليس حتى أتى الجمرة الوسطى ففعل به
إبراهيم كما فعل في الأولى ، ثم كذلك في الجمرة الثالثة ، ثم أخذ
جبريل بيد
إبراهيم حتى أتى به
المشعر الحرام فقال : هذا
المشعر الحرام ، ثم ذهب حتى أتى به
عرفات ، قال : وقد عرفت ما أريتك ؟ قالها ثلاثا ، قال : نعم ، قال : فأذن في الناس بالحج ، قال : كيف أؤذن ؟ قال : قل : يا أيها الناس أجيبوا ربكم . ثلاث مرات ، فأجاب العباد :
[ ص: 95 ] لبيك اللهم لبيك ، فمن أجاب
إبراهيم يومئذ من الخلق فهو حاج .
وأخرج
nindex.php?page=showalam&ids=16935ابن جرير من طريق
nindex.php?page=showalam&ids=15990ابن المسيب عن
علي قال : لما فرغ
إبراهيم من بناء البيت قال : قد فعلت أي رب . فأرنا مناسكنا : أبرزها لنا علمناها ، فبعث الله
جبريل فحج به . وفي الباب آثار كثيرة عن السلف من الصحابة ومن بعدهم تتضمن أن
جبريل أرى
إبراهيم المناسك ، وفي أكثرها أن الشيطان تعرض له كما تقدم عن
مجاهد .
وقد أخرج
nindex.php?page=showalam&ids=13114ابن خزيمة nindex.php?page=showalam&ids=14687والطبراني والحاكم وصححه
والبيهقي في الشعب عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس نحو ذلك ، وكذلك أخرج عنه
أحمد nindex.php?page=showalam&ids=16328وابن أبي حاتم والبيهقي .