يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين وكان الله غفورا رحيما ( 59 )
لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة لنغرينك بهم ثم لا يجاورونك فيها إلا قليلا ( 60 )
ملعونين أينما ثقفوا أخذوا وقتلوا تقتيلا ( 61 )
سنة الله في الذين خلوا من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا ( 62 )
يسألك الناس عن الساعة قل إنما علمها عند الله وما يدريك لعل الساعة تكون قريبا ( 63 )
إن الله لعن الكافرين وأعد لهم سعيرا ( 64 )
خالدين فيها أبدا لا يجدون وليا ولا نصيرا ( 65 )
يوم تقلب وجوههم في النار يقولون يا ليتنا أطعنا الله وأطعنا الرسولا ( 66 )
وقالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا ( 67 )
ربنا آتهم ضعفين من العذاب والعنهم لعنا كبيرا ( 68 )
لما فرغ - سبحانه - من الزجر لمن يؤذي رسوله والمؤمنين والمؤمنات من عباده أمر رسوله - صلى الله عليه وآله وسلم - بأن يأمر بعض من ناله الأذى ببعض ما يدفع ما يقع عليه منه فقال :
[ ص: 1184 ] ياأيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن من للتبعيض ، والجلابيب جمع جلباب ، وهو ثوب أكبر من الخمار .
قال
الجوهري الجلباب الملحفة ، وقيل : القناع ، وقيل : هو ثوب يستر جميع بدن المرأة ، كما ثبت في الصحيح من حديث
nindex.php?page=showalam&ids=62أم عطية أنها قالت :
nindex.php?page=hadith&LINKID=1021197يا رسول الله إحدانا لا يكون لها جلباب ، فقال : لتلبسها أختها من جلبابها ، قال
الواحدي : قال المفسرون يغطين وجوههن ورءوسهن إلا عينا واحدة ، فيعلم أنهن حرائر فلا يعرض لهن بأذى .
وقال
الحسن : تغطي نصف وجهها .
وقال
قتادة : تلويه فوق الجبين وتشده ثم تعطفه على الأنف وإن ظهرت عيناها لكنه يستر الصدر ومعظم الوجه ، والإشارة بقوله : ذلك إلى إدناء الجلابيب ، وهو مبتدأ وخبره
أدنى أن يعرفن أي : أقرب أن يعرفن فيتميزن عن الإماء ويظهر للناس أنهن حرائر
فلا يؤذين من جهة أهل الريبة بالتعرض لهن مراقبة لهن ولأهلهن ، وليس المراد بقوله :
ذلك أدنى أن يعرفن أن تعرف الواحدة منهن من هي ، بل المراد أن يعرفن أنهن حرائر لا إماء ؛ لأنهن قد لبسن لبسة تختص بالحرائر
وكان الله غفورا لما سلف منهن من ترك إدناء الجلابيب رحيما بهن أو غفورا لذنوب المذنبين رحيما بهم فيدخلن في ذلك دخولا أوليا .
ثم توعد - سبحانه - أهل النفاق والإرجاف ، فقال :
لئن لم ينته المنافقون عما هم عليه من النفاق
والذين في قلوبهم مرض أي : شك وريبة عما هم عليه من الاضطراب
والمرجفون في المدينة عما يصدر منهم من الإرجاف بذكر الأخبار الكاذبة المتضمنة لتوهين جانب المسلمين وظهور المشركين عليهم .
قال
القرطبي : أهل التفسير على أن الأوصاف الثلاثة لشيء واحد ، والمعنى : أن المنافقين قد جمعوا بين النفاق ومرض القلوب والإرجاف على المسلمين ، فهو على هذا من باب قوله :
إلى الملك القرم وابن الهمام وليث الكتيبة في المزدحم
أي : إلى الملك
القرم بن الهمام ليث الكتيبة .
وقال
عكرمة nindex.php?page=showalam&ids=16128وشهر بن حوشب : الذين في قلوبهم مرض هم الزناة .
والإرجاف في اللغة : إشاعة الكذب والباطل ، يقال : أرجف بكذا : إذا أخبر به على غير حقيقة لكونه خبرا متزلزلا غير ثابت ، من الرجفة وهي الزلزلة .
يقال : رجفت الأرض أي : تحركت وتزلزلت ترجف رجفا ، والرجفان : الاضطراب الشديد ، وسمي البحر رجافا لاضطرابه ، ومنه قول الشاعر :
المطعمون اللحم كل عشية حتى تغيب الشمس في الرجاف
والإرجاف واحد الأراجيف ، وأرجفوا في الشيء : خاضوا فيه ، ومنه قول شاعر :
فإنا وإن عيرتمونا بقلة وأرجف بالإسلام باغ وحاسد
وقول الآخر :
أبالأراجيف يا ابن اللؤم توعدني وفي الأراجيف خلت اللؤم والخور
وذلك بأن هؤلاء المرجفين كانوا يخبرون عن سرايا المسلمين بأنهم هزموا ، وتارة بأنهم قتلوا ، وتارة بأنهم غلبوا ونحو ذلك مما تنكسر له قلوب المسلمين من الأخبار ، فتوعدهم الله - سبحانه - بقوله :
لنغرينك بهم أي : لنسلطنك عليهم بالقتل والتشريد بأمرنا لك بذلك .
قال
nindex.php?page=showalam&ids=15153المبرد : قد أغراه الله بهم في قوله بعد هذه الآية .
ملعونين أينما ثقفوا أخذوا وقتلوا تقتيلا فهذا فيه معنى الأمر بقتلهم وأخذهم أي : هذا حكمهم إذا كانوا مقيمين على النفاق والإرجاف .
قال
النحاس : وهذا من أحسن ما قيل : في الآية .
وأقول : ليس هذا بحسن ولا أحسن ، فإن قوله ملعونين إلخ ، إنما هو لمجرد الدعاء عليهم لا أنه أمر لرسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - بقتالهم ولا تسليط له عليهم ، وقد قيل : إنهم انتهوا بعد نزول هذه الآية عن الإرجاف فلم يغره الله بهم ، وجملة
لنغرينك بهم جواب القسم ، وجملة
ثم لا يجاورونك فيها إلا قليلا معطوفة على جملة جواب القسم أي : لا يجاورونك فيها إلا جوارا قليلا حتى يهلكوا ، وانتصاب ملعونين على الحال كما قال
nindex.php?page=showalam&ids=15153المبرد وغيره ، والمعنى مطرودين أينما وجدوا وأدركوا
أخذوا وقتلوا دعاء عليهم بأن يؤخذوا ويقتلوا تقتيلا وقيل : إن هذا هو الحكم فيهم وليس بدعاء عليهم ، والأول أولى .
وقيل : معنى الآية : أنهم أصروا على النفاق لم يكن لهم مقام
بالمدينة إلا وهم مطرودون .
سنة الله في الذين خلوا من قبل أي : سن الله ذلك في الأمم الماضية ، وهو لعن المنافقين وأخذهم وتقتيلهم ، وكذا حكم المرجفين ، وهو منتصب على المصدر .
قال
nindex.php?page=showalam&ids=14416الزجاج : بين الله في الذين ينافقون الأنبياء ويرجفون بهم أن يقتلوا حيثما ثقفوا
ولن تجد لسنة الله تبديلا أي : تحويلا وتغييرا ، بل هي ثابتة دائمة في أمثال هؤلاء في الخلف والسلف .
يسألك الناس عن الساعة أي : عن وقت قيامها وحصولها ، قيل : السائلون عن الساعة هم أولئك المنافقون والمرجفون لما توعدوا بالعذاب سألوا عن الساعة استبعادا وتكذيبا
وما يدريك يا
محمد أي : ما يعلمك ويخبرك
لعل الساعة تكون قريبا أي : في زمان قريب ، وانتصاب قريبا على الظرفية ، والتذكير لكون الساعة في معنى اليوم أو الوقت مع كون تأنيث الساعة ليس بحقيقي ، والخطاب لرسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - لبيان أنها إذا كانت محجوبة عنه لا يعلم وقتها ، وهو رسول الله ، فكيف بغيره من الناس ؟ وفي هذا تهديد لهم عظيم .
إن الله لعن الكافرين أي : طردهم وأبعدهم من رحمته
وأعد لهم في الآخرة مع ذلك اللعن منه لهم في الدنيا سعيرا أي : نارا شديدة التسعر .
خالدين فيها أبدا بلا انقطاع
لا يجدون وليا يواليهم ويحفظهم من عذابها ولا نصيرا ينصرهم ويخلصهم منها .
ويوم في قوله :
يوم تقلب وجوههم في النار ظرف لقوله لا يجدون ، وقيل : ل خالدين ، وقيل : ل نصيرا ، وقيل : لفعل مقدر ، وهو اذكر .
قرأ الجمهور " تقلب " بضم التاء وفتح اللام على البناء للمفعول .
وقرأ
عيسى الهمداني ،
وابن أبي إسحاق " نقلب " بالنون وكسر اللام على البناء للفاعل ، وهو الله - سبحانه - .
وقرأ
[ ص: 1185 ] عيسى أيضا بضم التاء وكسر اللام على معنى تقلب السعير وجوههم .
وقرأ
أبو حيوة وأبو جعفر وشيبة بفتح التاء واللام على معنى تتقلب ، ومعنى هذا التقلب المذكور في الآية : هو تقلبها تارة على جهة منها ، وتارة على جهة أخرى ظهرا لبطن ، أو تغير ألوانهم بلفح النار فتسود تارة وتخضر أخرى ، أو تبديل جلودهم بجلود أخرى ، فحينئذ
يقولون يا ليتنا أطعنا الله وأطعنا الرسولا والجملة مستأنفة كأنه قيل : فما حالهم ؟ فقيل : يقولون ، ويجوز أن يكون المعنى يقولون يوم تقلب وجوههم في النار يا ليتنا إلخ .
تمنوا أنهم أطاعوا الله والرسول وآمنوا بما جاء به لينجوا مما هم فيه من العذاب كما نجا المؤمنون .
وهذه الألف في الرسولا ، والألف التي ستأتي في " السبيلا " هي الألف التي تقع في الفواصل ويسميها النحاة ألف الإطلاق ، وقد سبق بيان هذا في أول هذه السورة .
وقالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا هذه الجملة معطوفة على الجملة الأولى ، والمراد بالسادة والكبراء هم الرؤساء والقادة الذين كانوا يمتثلون أمرهم في الدنيا ويقتدون بهم ، وفي هذا زجر عن التقليد شديد ، وكم في الكتاب العزيز من التنبيه على هذا والتحذير منه والتنفير عنه ، ولكن لمن يفهم معنى كلام الله ويقتدي به وينصف من نفسه ، لا لمن هو من جنس الأنعام ، في سوء الفهم ومزيد البلادة وشدة التعصب .
وقرأ
الحسن ،
وابن عامر " ساداتنا " بكسر التاء جمع سادة فهو جمع الجمع .
وقال
مقاتل : هم المطعمون في غزوة
بدر ، والأول أولى ، ولا وجه للتخصيص بطائفة معينة
فأضلونا السبيلا أي : عن السبيل بما زينوا لنا من الكفر بالله ورسوله ، والسبيل هو التوحيد .
ثم دعوا عليهم في ذلك الموقف فقالوا :
ربنا آتهم ضعفين من العذاب أي : مثل عذابنا مرتين .
وقال
قتادة : عذاب الدنيا والآخرة ، وقيل : عذاب الكفر وعذاب الإضلال
والعنهم لعنا كبيرا قرأ الجمهور " كثيرا " بالمثلثة أي : لعنا كثير العدد عظيم القدر شديد الموقع ، واختار هذه القراءة
أبو حاتم وأبو عبيد والنحاس ، وقرأ
nindex.php?page=showalam&ids=10ابن مسعود وأصحابه
nindex.php?page=showalam&ids=17340ويحيى بن وثاب ،
وعاصم بالباء الموحدة أي : كبيرا في نفسه شديدا عليهم ثقيل الموقع .
وقد أخرج
nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري ،
ومسلم وغيرهما عن
عائشة قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=1021198خرجت nindex.php?page=showalam&ids=93سودة بعد ما ضرب الحجاب لحاجتها ، وكانت امرأة جسيمة لا تخفى على من يعرفها ، فرآها عمر فقال : يا nindex.php?page=showalam&ids=93سودة أما والله ما تخفين علينا فانظري كيف تخرجين ؟ قال : فانكفأت راجعة ورسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - في بيتي وإنه ليتعشى وفي يده عرق ، فدخلت وقالت : يا رسول الله إني خرجت لبعض حاجتي ، فقال لي عمر كذا وكذا ، فأوحي إليه ثم رفع عنه ، وإن العرق في يده ما وضعه فقال : إنه قد أذن لكن أن تخرجن لحاجتكن .
وأخرج
nindex.php?page=showalam&ids=16000سعيد بن منصور ،
وابن سعد ،
nindex.php?page=showalam&ids=16298وعبد بن حميد ،
وابن المنذر ،
nindex.php?page=showalam&ids=16328وابن أبي حاتم ، عن
أبي مالك قال : كان نساء النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - يخرجن بالليل لحاجتهن ، وكان ناس من المنافقين يتعرضون لهن فيؤذين ، فقيل ذلك للمنافقين ، فقالوا : إنما نفعله بالإماء ، فنزلت هذه
ياأيها النبي قل لأزواجك الآية .
وأخرج
ابن سعد عن
nindex.php?page=showalam&ids=14980محمد بن كعب القرظي قال : كان رجل من المنافقين يتعرض لنساء المؤمنين ويؤذيهن ، فإذا قيل له ، قال كنت أحسبها أمة ، فأمرهن الله أن يخالفن زي الإماء ويدنين عليهن من جلابيبهن تخمر وجهها إلا إحدى عينيها
ذلك أدنى أن يعرفن يقول : ذلك أحرى أن يعرفن .
وأخرج
nindex.php?page=showalam&ids=16935ابن جرير ،
nindex.php?page=showalam&ids=16328وابن أبي حاتم ،
وابن مردويه عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس في هذه الآية قال : أمر الله نساء المؤمنات إذا خرجن من بيوتهن في حاجة أن يغطين وجوههن من فوق رءوسهن بالجلابيب ويبدين عينا واحدة .
وأخرج ،
عبد الرزاق ،
nindex.php?page=showalam&ids=16298وعبد بن حميد ،
وأبو داود ،
وابن المنذر ،
nindex.php?page=showalam&ids=16328وابن أبي حاتم ،
وابن مردويه عن
nindex.php?page=showalam&ids=54أم سلمة قالت : لما نزلت هذه الآية
يدنين عليهن من جلابيبهن خرج نساء
الأنصار كأن رءوسهن الغربان من السكينة وعليهن أكسية سود يلبسنها ، هكذا في الزوائد بلفظ من السكينة ، وليس لها معنى ، فإن المراد تشبيه الأكسية السود بالغربان ، لا أن المراد وصفهن بالسكينة كما يقال : كأن على رءوسهم الطير .
وأخرج
ابن مردويه عن
عائشة قالت : رحم الله نساء الأنصار لما نزلت
ياأيها النبي قل لأزواجك الآية شققن مروطهن ، فاعتجرن بها وصلين خلف رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - كأنما على رءوسهن الغربان .
وأخرج
nindex.php?page=showalam&ids=16935ابن جرير ،
وابن مردويه عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس في الآية قال : كانت الحرة تلبس لباس الأمة فأمر الله نساء المؤمنين أن يدنين عليهن من جلابيبهن ، وإدناء الجلباب أن تقنع وتشده على جبينها .
وأخرج
ابن سعد عن
nindex.php?page=showalam&ids=14980محمد بن كعب في قوله :
لئن لم ينته المنافقون يعني المنافقين بأعيانهم
والذين في قلوبهم مرض شك : يعني المنافقين أيضا .
وأخرج
ابن سعد أيضا عن
عبيد بن جبير قال : الذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة هم المنافقون جميعا .
وأخرج
nindex.php?page=showalam&ids=16935ابن جرير ،
وابن المنذر ،
nindex.php?page=showalam&ids=16328وابن أبي حاتم ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس في قوله :
لنغرينك بهم قال : لنسلطنك عليهم .