إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا فأولئك أتوب عليهم وأنا التواب الرحيم إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار أولئك عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين خالدين فيها لا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينظرون وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم
قوله :
إن الذين يكتمون إلى آخر الآية ، فيه الإخبار بأن الذي يكتم ذلك ملعون ، واختلفوا من المراد بذلك ؟ فقيل :
أحبار اليهود ورهبان النصارى الذين كتموا أمر محمد صلى الله عليه وسلم ، وقيل : كل من كتم الحق وترك بيان ما أوجب الله بيانه ، وهو الراجح لأن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب كما تقرر في الأصول ، فعلى فرض أن سبب النزول ما وقع من
اليهود والنصارى من الكتم فلا ينافي ذلك تناول هذه الآية كل من كتم الحق .
وفي هذه الآية من الوعيد الشديد ما لا يقادر قدره ، فإن من لعنه الله ولعنه كل من يتأتى منه اللعن من عباده قد بلغ من الشقاوة والخسران إلى الغاية التي لا تلحق ولا يدرك كنهها .
وفي قوله :
من البينات والهدى دليل على أنه يجوز كتم غير ذلك كما قال
nindex.php?page=showalam&ids=3أبو هريرة :
nindex.php?page=hadith&LINKID=1019495 " حفظت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعاءين : أما أحدهما فبثثته ، وأما الآخر فلو بثثته قطع هذا البلعوم " أخرجه
nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري .
والضمير في قوله :
من بعد ما بيناه راجع إلى
ما أنزلنا ، والكتاب اسم جنس ، وتعريفه يفيد شموله لجميع الكتب ، وقيل : المراد به التوراة .
واللعن : الإبعاد والطرد .
والمراد بقوله :
اللاعنون الملائكة والمؤمنون قاله
nindex.php?page=showalam&ids=14416الزجاج وغيره ، ورجحه
ابن عطية ، وقيل : كل من يتأتى منه اللعن ، فيدخل في ذلك الجن ، وقيل : هم الحشرات والبهائم .
وقوله :
إلا الذين تابوا إلخ ، فيه استثناء التائبين والمصلحين لما فسد من أعمالهم ، والمبينين للناس ما بينه الله في كتبه وعلى ألسن رسله .
قوله :
وماتوا وهم كفار هذه الجملة حالية ، وقد استدل بذلك على أنه لا يجوز
لعن كافر معين ، لأن حاله عند الوفاة لا يعلم ، ولا ينافي ذلك ما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم من لعنه لقوم من الكفار بأعيانهم ، لأنه يعلم بالوحي ما لا نعلم ، وقيل : يجوز لعنه عملا بظاهر الحال كما يجوز قتاله .
قوله :
أولئك عليهم لعنة الله إلخ ، استدل به على جواز
لعن الكفار على العموم .
قال
القرطبي : ولا خلاف في ذلك .
قال : وليس لعن الكافر بطريق الزجر له عن الكفر ، بل هو جزاء على الكفر وإظهار قبح كفره سواء كان الكافر عاقلا أو مجنونا .
وقال قوم من السلف : لا فائدة في لعن من جن أو مات منهم لا بطريق الجزاء ولا بطريق الزجر .
قال : ويدل على هذا القول أن الآية دالة على الإخبار عن الله والملائكة والناس بلعنهم
[ ص: 106 ] لا على الأمر به .
قال
ابن العربي : إن
لعن العاصي المعين لا يجوز باتفاق ، لما روي : أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بشارب خمر مرارا ، فقال بعض من حضر : لعنه الله ما أكثر ما يشربه ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم :
nindex.php?page=hadith&LINKID=1019496لا تكونوا عونا للشيطان على أخيكم والحديث في الصحيحين .
وقوله :
والناس أجمعين قيل : هذا يوم القيامة ، وأما في الدنيا ففي الناس المسلم والكافر ، ومن يعلم بالعاصي ومعصيته ومن لا يعلم ، فلا يتأتى اللعن له من جميع الناس ، وقيل : في الدنيا ، والمراد أنه يلعنه غالب الناس أو كل من علم بمعصيته منهم .
وقوله :
خالدين فيها أي في النار ، وقيل : في اللعنة .
والإنظار : الإمهال ، وقيل : معنى لا ينظرون : لا ينظر الله إليهم فهو من النظر ، وقيل : هو من الانتظار ، أي لا ينتظرون ليعتذروا .
وقد تقدم تفسير
الرحمن الرحيم .
وقوله :
وإلهكم إله واحد فيه الإرشاد إلى التوحيد وقطع علائق الشرك ، والإشارة إلى أن أول ما يجب بيانه ويحرم كتمانه هو أمر التوحيد .
وقد أخرج
nindex.php?page=showalam&ids=12563ابن إسحاق nindex.php?page=showalam&ids=16935وابن جرير وابن المنذر nindex.php?page=showalam&ids=16328وابن أبي حاتم عن nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس قال : سأل nindex.php?page=showalam&ids=32معاذ بن جبل أخو بني سلمة nindex.php?page=showalam&ids=307وسعد بن معاذ أخو بني الأشهل nindex.php?page=showalam&ids=15786وخارجة بن زيد أخو بني الحارث بن الخزرج نفرا من أحبار اليهود عن بعض ما في التوراة ، فكتموهم إياه وأبوا أن يخبروهم ، فأنزل الله فيهم : إن الذين يكتمون ما أنزلنا الآية .
وقد روي عن جماعة من السلف أن الآية نزلت في أهل الكتاب لكتمهم نبوة نبينا صلى الله عليه وسلم .
وأخرج
nindex.php?page=showalam&ids=13478ابن ماجه وابن المنذر nindex.php?page=showalam&ids=16328وابن أبي حاتم عن
nindex.php?page=showalam&ids=48البراء بن عازب قال : كنا في جنازة مع النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=1019498إن الكافر يضرب ضربة بين عينيه فتسمعه كل دابة غير الثقلين ، فتلعنه كل دابة سمعت صوته ، فذلك قول الله تعالى :
ويلعنهم اللاعنون يعني دواب الأرض .
وأخرج
nindex.php?page=showalam&ids=16298عبد بن حميد عن
عطاء قال : الجن والإنس وكل دابة .
وأخرج
عبد الرزاق nindex.php?page=showalam&ids=16298وعبد بن حميد nindex.php?page=showalam&ids=16935وابن جرير وأبو نعيم في الحلية
والبيهقي في شعب الإيمان قال في تفسير الآية : إن دواب الأرض والعقارب والخنافس يقولون : إنما منعنا القطر بذنوبهم فيلعنونهم .
وأخرج
nindex.php?page=showalam&ids=16298عبد بن حميد nindex.php?page=showalam&ids=16935وابن جرير عن
عكرمة نحوه .
وأخرج
nindex.php?page=showalam&ids=16298عبد بن حميد عن
أبي جعفر قال : يلعنهم كل شيء حتى الخنفساء .
وقد وردت أحاديث كثيرة في النهي عن
كتم العلم والوعيد لفاعله .
وأخرج
nindex.php?page=showalam&ids=16298عبد بن حميد nindex.php?page=showalam&ids=16935وابن جرير عن
قتادة في قوله :
إلا الذين تابوا وأصلحوا قال : أصلحوا ما بينهم وبين الله ، وبينوا الذي جاءهم من الله ولم يكتموه ولم يجحدوه .
وأخرج
nindex.php?page=showalam&ids=16328ابن أبي حاتم عن
nindex.php?page=showalam&ids=15992سعيد بن جبير في قوله :
أتوب عليهم يعني أتجاوز عنهم .
وأخرج
nindex.php?page=showalam&ids=16935ابن جرير nindex.php?page=showalam&ids=16328وابن أبي حاتم عن
أبي العالية قال : إن الكافر يوقف يوم القيامة فيلعنه الله ، ثم تلعنه الملائكة ، ثم يلعنه الناس أجمعون .
وأخرج
nindex.php?page=showalam&ids=16298عبد بن حميد nindex.php?page=showalam&ids=16935وابن جرير عن
قتادة قال : يعني بالناس أجمعين المؤمنين .
وأخرج
nindex.php?page=showalam&ids=16935ابن جرير عن
أبي العالية في قوله :
خالدين فيها يقول : خالدين في جهنم في اللعنة .
وقال في قوله :
ولا هم ينظرون يقول : ألا ينظرون فيعتذرون .
وأخرج
nindex.php?page=showalam&ids=16328ابن أبي حاتم عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس في قوله :
ولا هم ينظرون قال : لا يؤخرون .
وأخرج
nindex.php?page=showalam&ids=12508ابن أبي شيبة وأحمد nindex.php?page=showalam&ids=14272والدارمي nindex.php?page=showalam&ids=13948والترمذي وصححه
nindex.php?page=showalam&ids=13478وابن ماجه عن
nindex.php?page=showalam&ids=10382أسماء بنت يزيد بن السكن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=1019499اسم الله الأعظم في هاتين الآيتين وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم ، و الم الله لا إله إلا هو الحي القيوم .
وأخرج
الديلمي عن
أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
ليس شيء أشد على مردة الجن من هؤلاء الآيات التي في سورة البقرة وإلهكم إله واحد الآيتين .