ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم فحسبه جهنم ولبئس المهاد ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله والله رءوف بالعباد
لما ذكر سبحانه طائفتي المسلمين بقوله :
فمن الناس من يقول عقب ذلك بذكر طائفة المنافقين ، وهم الذين يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر .
وسبب النزول
الأخنس بن شريق كما يأتي بيانه .
قال
ابن عطية : ما ثبت قط أن
الأخنس أسلم ، وقيل : إنها نزلت في قوم من المنافقين ، وقيل : إنها نزلت في كل من أضمر كفرا أو نفاقا أو كذبا ، وأظهر بلسانه خلافه .
ومعنى قوله :
يعجبك واضح .
ومعنى قوله :
ويشهد الله على ما في قلبه أنه يحلف على ذلك فيقول : يشهد الله على ما في قلبي من محبتك أو من الإسلام ، أو يقول : الله يعلم أني أقول حقا ، وأني صادق في قولي لك .
وقرأ
ابن محيصن : " ويشهد الله " بفتح حرف المضارعة ورفع الاسم الشريف على أنه فاعل ، والمعنى : ويعلم الله منه خلاف ما قال : ومثله قوله تعالى :
والله يشهد إن المنافقين لكاذبون [ المنافقون : 1 ] وقراءة الجماعة أبلغ في الذم .
وقرأ
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس " والله يشهد على ما في قلبه " وقرأ
أبي nindex.php?page=showalam&ids=10وابن مسعود " ويستشهد الله على ما في قلبه " .
وقوله :
في الحياة الدنيا متعلق بالقول ، أو بـ " يعجبك " ، فعلى الأول القول صادر في الحياة ، وعلى الثاني الإعجاب صادر فيها .
والألد : الشديد الخصومة .
يقال : رجل ألد ، وامرأة لداء ، ولددته ألده : إذا جادلته فغلبته ، ومنه قول الشاعر :
وألد ذي جنف علي كأنما تغلي عداوة صدره في مرجل
والخصام مصدر " خاصم " ، قاله
الخليل ، وقيل : جمع خصم ، قاله
nindex.php?page=showalam&ids=14416الزجاج : ككلب وكلاب ، وصعب وصعاب وضخم وضخام .
والمعنى : أنه أشد المخاصمين خصومة ، لكثرة جداله وقوة مراجعته ، وإضافة الألد إلى الخصام بمعنى في : أي ألد في الخصام ، أو جعل الخصام ألد على المبالغة .
وقوله :
وإذا تولى أي أدبر وذهب عنك يا
محمد ، وقيل : إنه بمعنى ضل وغضب ، وقيل : إنه بمعنى الولاية : أي إذا كان واليا فعل ما يفعله ولاة السوء من الفساد في الأرض .
والسعي المذكور يحتمل أن يكون المراد به السعي بالقدمين إلى ما هو فساد في الأرض كقطع الطريق وحرب المسلمين ويحتمل أن يكون المراد به العمل في الفساد ، وإن لم يكن فيه سعي بالقدمين ، كالتدبير على المسلمين بما يضرهم ، وإعمال الحيل عليهم ، وكل عمل يعمله الإنسان بجوارحه أو حواسه يقال له سعي ، وهذا هو الظاهر من هذه الآية .
وقوله :
ويهلك عطف على قوله :
ليفسد وفي قراءة
أبي " وليهلك " .
وقرأه
قتادة بالرفع .
وروي عن
ابن كثير : " ويهلك " بفتح الياء وضم الكاف ورفع " الحرث والنسل " ، وهي قراءة
الحسن وابن محيصن .
والمراد بالحرث : الزرع ، والنسل : الأولاد ، وقيل : الحرث النساء .
قال
nindex.php?page=showalam&ids=14416الزجاج : وذلك لأن
النفاق يؤدي إلى تفريق الكلمة ووقوع القتال ، وفيه هلاك الخلق ، وقيل : معناه : أن الظالم يفسد في الأرض فيمسك الله المطر فيهلك الحرث والنسل .
وأصل الحرث في اللغة : الشق ، ومنه المحراث لما يشق به الأرض ، والحرث : كسب المال وجمعه .
وأصل النسل في اللغة : الخروج والسقوط ومنه نسل الشعر ، ومنه أيضا
إلى ربهم ينسلون [ يس : 1 ] ،
وهم من كل حدب ينسلون [ الأنبياء : 96 ] ويقال لما خرج من كل أنثى نسل لخروجه منها .
وقوله :
والله لا يحب الفساد يشمل كل نوع من أنواعه من غير فرق بين ما فيه فساد الدين ، وما فيه فساد الدنيا .
والعزة : القوة والغلبة ، من عزه يعزه : إذا غلبه ، ومنه
وعزني في الخطاب [ ص : 23 ] ، وقيل العزة هنا : الحمية ، ومنه قول الشاعر :
أخذته عزة من جهله فتولى مغضبا فعل الضجر
وقيل : العزة هنا المنعة وشدة النفس .
ومعنى :
أخذته العزة بالإثم حملته العزة على الإثم ، من قولك أخذته بكذا : إذا حملته عليه وألزمته إياه ، وقيل : أخذته العزة بما يؤثمه : أي ارتكب الكفر للعزة ، ومنه :
بل الذين كفروا في عزة وشقاق [ ص : 2 ] وقيل : الباء في قوله :
بالإثم بمعنى اللام : أي أخذته العزة والحمية عن قبول الوعظ للإثم الذي
[ ص: 135 ] في قلبه ، وهو النفاق ، وقيل : الباء بمعنى مع ، أي أخذته العزة من الإثم .
وقوله :
فحسبه جهنم أي كافية معاقبة وجزاء ، كما تقول للرجل : كفاك ما حل بك ، وأنت تستعظم عليه ما حل به .
والمهاد جمع المهد ، وهو الموضع المهيأ للنوم ، ومنه مهد الصبي ، وسميت جهنم مهادا ، لأنها مستقر الكفار ، وقيل : المعنى أنها بدل لهم من المهاد كقوله :
فبشرهم بعذاب أليم [ آل عمران : 21 ] وقول الشاعر :
تحية بينهم ضرب وجيع
ويشري بمعنى يبيع : أي
يبيع نفسه في مرضاة الله كالجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ومثله قوله تعالى :
وشروه بثمن بخس [ يوسف : 20 ] وأصله الاستبدال ومنه قوله :
إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة [ التوبة : 111 ] ، ومنه قول الشاعر :
وشريت بردا ليتني من بعد برد كنت هامه
ومنه قول الآخر :
يعطي بها ثمنا فيمنعها ويقول صاحبه ألا تشري
والمرضاة : الرضا ، تقول : رضي يرضى ، رضا ومرضاة .
ووجه ذكر الرأفة هنا أنه أوجب عليهم ما أوجبه ليجازيهم ويثيبهم عليه ، فكان ذلك رأفة بهم ولطفا لهم .
وقد أخرج
nindex.php?page=showalam&ids=12563ابن إسحاق nindex.php?page=showalam&ids=16935وابن جرير وابن المنذر nindex.php?page=showalam&ids=16328وابن أبي حاتم عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس قال : لما أصيبت السرية التي فيها
عاصم ومرثد قال رجال من المنافقين : يا ويح هؤلاء المقتولين الذين هلكوا هكذا ، لا هم قعدوا في أهلهم ، ولا هم أدوا رسالة صاحبهم ؟ فأنزل الله :
ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا أي ما يظهر من الإسلام بلسانه
ويشهد الله على ما في قلبه أنه مخالف لما يقوله بلسانه :
وهو ألد الخصام أي ذو جدال إذا كلمك وراجعك
وإذا تولى خرج من عندك
سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد أي لا يحب عمله ولا يرضى به
ومن الناس من يشري نفسه الذين يشرون أنفسهم من الله بالجهاد في سبيله والقيام بحقه ، حتى هلكوا على ذلك : يعني هذه السرية .
وأخرج
nindex.php?page=showalam&ids=16935ابن جرير وابن المنذر nindex.php?page=showalam&ids=16328وابن أبي حاتم عن nindex.php?page=showalam&ids=14468السدي في قوله : ومن الناس من يعجبك الآية ، قال : نزلت في الأخنس بن شريق الثقفي حليف بني زهرة أقبل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم المدينة وقال : جئت أريد الإسلام ويعلم الله أني لصادق ، فأعجب النبي صلى الله عليه وآله وسلم ذلك منه ، فذلك قوله : ويشهد الله على ما في قلبه .
ثم خرج من عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم فمر بزرع لقوم من المسلمين وحمر ، فأحرق الزرع ، وعقر الحمر ، فأنزل الله وإذا تولى سعى في الأرض الآية .
وأخرج
nindex.php?page=showalam&ids=16328ابن أبي حاتم عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس في قوله :
وهو ألد الخصام قال : هو شديد الخصومة .
وأخرج
nindex.php?page=showalam&ids=16298عبد بن حميد عن
مجاهد في قوله :
وإذا تولى سعى في الأرض قال : عمل في الأرض
ويهلك الحرث قال : نبات الأرض
والنسل نسل كل شيء من الحيوان ، الناس والدواب .
وأخرج
nindex.php?page=showalam&ids=16935ابن جرير nindex.php?page=showalam&ids=16328وابن أبي حاتم عن
مجاهد أيضا أنه سئل عن قوله :
وإذا تولى سعى في الأرض قال : يلي في الأرض فيعمل فيها بالعدوان والظلم ، فيحبس الله بذلك القطر من السماء ، فتهلك بحبس القطر الحرث والنسل والله لا يحب الفساد .
ثم قرأ
مجاهد :
ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس الآية [ الروم : 41 ] .
وأخرج
nindex.php?page=showalam&ids=16298عبد بن حميد nindex.php?page=showalam&ids=16935وابن جرير وابن المنذر nindex.php?page=showalam&ids=16328وابن أبي حاتم عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس أنه سئل عن قوله :
ويهلك الحرث والنسل قال : الحرث الزرع ، والنسل : نسل كل دابة .
وأخرج
ابن المنذر nindex.php?page=showalam&ids=14687والطبراني والبيهقي في الشعب عن
nindex.php?page=showalam&ids=10ابن مسعود قال : إن من
أكبر الذنوب عند الله أن يقول الرجل لأخيه : اتق الله ، فيقول عليك بنفسك ، أنت تأمرني .
وأخرج
ابن المنذر والبيهقي في الشعب عن
سفيان قال : قال رجل
nindex.php?page=showalam&ids=16872لمالك بن مغول : اتق الله ، فسقط ، فوضع خده على الأرض تواضعا لله .
وأخرج
nindex.php?page=showalam&ids=16328ابن أبي حاتم وابن المنذر عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس في قوله :
ولبئس المهاد قال : بئس المنزل .
وأخرجا عن
مجاهد قال : بئس ما شهدوا لأنفسهم .
وأخرج
ابن مردويه عن
صهيب قال : لما أردت الهجرة من
مكة إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم قالت لي
قريش : يا
صهيب قدمت إلينا ولا مال لك ، وتخرج أنت
ومالك ، والله لا يكون ذلك أبدا ، فقلت لهم : أرأيتم إن دفعت إليكم مالي تخلون عني ؟ قالوا : نعم ، فدفعت إليهم مالي فخلوا عني ، فخرجت حتى قدمت
المدينة ، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=1019579ربح البيع صهيب مرتين .
وأخرج
ابن المنذر nindex.php?page=showalam&ids=16328وابن أبي حاتم وأبو نعيم في الحلية
nindex.php?page=showalam&ids=13359وابن عساكر عن
nindex.php?page=showalam&ids=15990سعيد بن المسيب نحوه .
وأخرج
nindex.php?page=showalam&ids=14687الطبراني والحاكم والبيهقي في الدلائل عن
صهيب نحوه .
وأخرج
ابن المنذر والحاكم وصححه عن
أنس قال : نزلت في خروج
صهيب إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
وأخرج
nindex.php?page=showalam&ids=16935ابن جرير عن
قتادة قال : هم
المهاجرون والأنصار .