السادس :
البحث عن الأصلي والزائد ، ومن هذا قوله تعالى :
إلا أن يعفون أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح ( البقرة : 237 ) فإنه قد نتوهم الواو في الأولى ضمير الجمع ، فيشكل ثبوت النون مع " أن " وليس كذلك ; بل الواو هنا لام الكلمة ، والنون ضمير جمع المؤنث ، فبنى الفعل معها على السكون ; فإذا وصل الناصب أو الجازم لا تحذف النون ، ومثله : " النساء يرجون " بخلاف " الرجال يرجون " ; فإن الواو فيه ضمير الجمع ، والنون حرف علامة للرفع ، وأصله " يرجوون " أعلت لام الكلمة بما يقتضيه التصريف ، فإذا دخل الجازم حذف النون ، وهذا مما اتفق فيه اللفظ واختلف في التقدير .
وكذلك
يبحث عما تقتضيه الصناعة في التقدير ، ولا يؤخذ بالظاهر ، ففي نحو قوله تعالى :
لا مرحبا بهم ( ص : 59 ) يتبادر إلى الذهن أن مرحبا نصب اسم " لا " ، وهو فاسد ; لأن شرط عملها في الاسم ألا يكون معمولا لغيرها ; وإنما نصب بفعل مضمر يجب إضماره و ( لا ) دعاء ، و ( بهم ) بيان للمدعو عليهم ، وأجاز أبو البقاء أن ينصب على المفعول به ، أي : لا يسمعون مرحبا ، وأجاز في جملة : لا مرحبا أن تكون مستأنفة ، وأن تكون حالا ، أي : هذا فوج مقولا له : لا مرحبا وفيه نظر ; لأنه قدر " مقولا " فمقولا هو الحال ، و لا مرحبا محكية بالقول في موضع نصب .
[ ص: 416 ] ومنه قوله تعالى :
واعلموا أن فيكم رسول الله ( الحجرات : 7 ) يتبادر إلى الذهن أن الظرف قبله خبر " أن " على التقديم ، وهو فاسد ; لأنه ليس المراد الإخبار بأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيهم ، وإنما الغرض أنه لو أطاعكم في كثير من الأمر لعنتم ، وإنما فيكم حال ، والمعنى : واعلموا أن رسول الله في حال كونه فيكم لو أطاعكم لكان كذا .
ومنه قوله تعالى :
لا يقضى عليهم فيموتوا ( فاطر : 36 ) ، وقوله :
ولا يؤذن لهم فيعتذرون ( المرسلات : 36 ) فإن الجواب وقع فيهما بعد النفي مقرونا بالفاء ، وفي الأولى حذفت النون ، وفي الثانية أثبتها ، فما الفرق بينهما ؟ وجوابه أن حذف النون جوابا للنفي هو على أحد معنيي نصب " ما تأتينا فتحدثنا " أي : ما يكون إتيان ولا حديث ، والمعنى الثاني إثبات الإتيان ونفي الحديث ، أي : ما تأتينا محدثا ، أي : تأتينا غير محدث وهذا لا يجوز في الآية . وأما إثبات النون فعلى العطف .
وقريب من ذلك قوله تعالى :
أبشرا منا واحدا نتبعه ( القمر : 24 ) ، وقوله :
أبشر يهدوننا ( التغابن : 6 ) حيث انتصب بشرا في الأول ، وارتفع في الثاني ، فيقال : ما الفرق بينهما ؟ والجواب : أن نصب بشرا على الاشتغال ، والشاغل للعامل منصوب ، فصح لعامله أن يفسر ناصبا ، وأما في الثانية فالشاغل مرفوع مفسر رافعا ، وهذا كما تقول :
أزيد قام ؟
فزيد مرفوع على الفاعلية ; لطلب أداة الفعل ، فهذا في الاشتغال ، والشاغل مرفوع ، وتقول فيما الشاغل فيه منصوب :
أزيدا ضربته ؟
وقريب منه إجماع القراء على نصب " قليل " في :
فشربوا منه إلا قليلا ( البقرة : 49 ) اختلفوا في
ما فعلوه إلا قليل ( النساء : 66 ) ، وإنما كان كذلك لأن قليلا الأول استثناء من موجب ، والثاني استثناء من منفي .
فإن قيل : فلم أجمعوا على النصب في
فلا يؤمنون إلا قليلا ( النساء : 46 ) مع أنه استثناء من غير موجب ؟ قيل : لأن هذا استثناء مفرغ ، وهو نعت لمصدر محذوف ، فالتقدير : فلا يؤمنون إلا إيمانا قليلا .
ومثله :
وكلا وعد الله الحسنى في سورة " الحديد " ( الآية : 10 ) قرأها
ابن عامر برفع
[ ص: 417 ] كل ووافق الجماعة على النصب في " النساء " ( الآية : 95 ) ، والفرق أن الذي في سورة " الحديد " شغل الخبر بهاء مضمرة ، وليس قبل هذه الجملة جملة فعلية ، فيختار لأجلها النصب ، فرفع بالابتداء ، وأما التي في سورة " النساء " فإنما اختير فيها النصب ; لأن قبله جملة فعلية ، وهي قول الله تعالى :
وفضل الله المجاهدين .