الثالث :
حذف الياء اكتفاء بالكسرة قبلها ، نحو :
فارهبون ( البقرة : 40 ) ،
فاعبدون ( الأنبياء : 25 ) .
قال
أبو العباس :
الياء الناقصة في الخط ضربان : ضرب محذوف في الخط ثابت في التلاوة ، وضرب محذوف فيهما .
فالأول هو باعتبار ملكوتي باطن ، وينقسم قسمين :
ما هو ضمير المتكلم وما هو لام الكلمة .
فالأول إذا كانت الياء ضمير المتكلم مثل
فكيف كان عذابي ونذر ( القمر : 16 ) ثبتت الياء الأولى لأنه فعل ملكوتي وكذلك " " فما آتان الله خير مما آتاكم " " ( النمل : 36 ) حذفت الياء لاعتبار ما آتاه الله من العلم والنبوة ، فهو المؤتى الملكوتي من قبل الآخرة ، وفى ضمنه الجسماني للدنيا ; لأنه فان ، والأول ثابت .
وكذلك : " " فلا تسألن ما ليس لك به علم " " ( هود : 46 ) وعلم هذا المسئول غيب
[ ص: 31 ] ملكوتي بدليل قوله :
ما ليس لك به علم فهو بخلاف قوله :
فلا تسألني عن شيء حتى أحدث لك منه ذكرا ( الكهف : 70 ) ، لأن هذا سؤال عن حوادث الملك في مقام الشاهد ، كخرق السفينة ( الكهف : 71 ) ، وقتل الغلام ( الكهف : 74 ) ، وإقامة الجدار ( الكهف : 77 ) .
وكذلك :
أجيب دعوة الداع إذا دعان ( البقرة : 186 ) ، فحذف الضمير في الخط دلالة على الدعاء الذي من جهة الملكوت بإخلاص الباطن .
وكذلك :
أسلمت وجهي لله ومن اتبعن ( آل عمران : 20 ) هو الاتباع العلمي في دين الله [ وطريق الآخرة بدليل قوله : أسلمت لله ، فهو بخلاف قوله :
فاتبعوني يحببكم الله ( آل عمران : 31 ) فإن هذا في الأعمال الظاهرة بالجوارح المقصود بها وجه الله وطاعته .
وكذلك :
لمن خاف مقامي وخاف وعيد ( إبراهيم : 14 ) ، ثبتت الياء في المقام لاعتبار المعنى من جهة الملك ، وحذفت من الوعيد لاعتباره ملكوتيا ، فخاف المقام من جهة ما ظهر للأبصار ، وخاف الوعيد من جهة إيمانه بالأخبار .
وكذلك : " "
لئن أخرتن إلى يوم القيامة " " ( الإسراء : 62 ) ، هو التأخير بالمؤاخذة لا التأخير الجسمي فهو بخلاف قوله
لولا أخرتني إلى أجل قريب ( المنافقون : 10 ) ; لأن هذا تأخير جسمي في الدنيا الظاهرة .
وكذلك : " "
عسى أن يهدين ربي لأقرب من هذا رشدا " " ( الكهف : 24 ) سياق الكلام في أمور محسوسة ، والهداية فيه ملكوتية ، وقد هداه الله في قصة الغار ، وهو في العدد :
ثاني اثنين ( التوبة : 40 ) ، حتى خرج بدينه عن قومه بأقرب من طريق
أهل الكهف حين خرجوا بدينهم عن قومهم وعددهم على ما قص الله علينا فيه ، وهذه الهداية بخلاف ما قال
[ ص: 32 ] موسى :
عسى ربي أن يهديني سواء السبيل ( القصص : 22 ) فإنها هداية السبيل المحسوسة إلى مدين في عالم الملك ، بدليل قوله :
ولما توجه تلقاء مدين ( القصص : 22 ) .
وكذلك : " "
على أن تعلمن مما علمت رشدا " " ( الكهف : 66 ) .
وكذلك :
ولا تتبعان ( يونس : 89 ) هو في طريق الهداية لا في مسير
موسى إلى ربه ، بدليل :
أفعصيت أمري ( طه : 93 ) ولم يأمره بالمسير الحسي إنما أمره أن يخلفه في قومه ويصلح وهذا بخلاف قول
هارون :
فاتبعوني وأطيعوا أمري ( طه : 90 ) فإنه اتباع محسوس في ترك ما سواه بدليل قوله :
وأطيعوا أمري وهو لا أمر له إلا الحسي .
وكذلك :
فكيف كان نكير ( الملك : 18 ) حيث وقع ، لأن النكير معتبر من جهة الملكوت ، لا من جهة أثره المحسوس ، فإن أثره قد انقضى وأخبر عنه بالفعل الماضي ، والنكير اسم ثابت في الأزمان كلها ، فيه التنبيه على أنه كما أخذ أولئك يأخذ غيرهم .
وكذلك :
إني أخاف أن يكذبون ( الشعراء : 12 ) خاف
موسى عليه السلام أن يكذبوه فيما جاءهم به ، وأن يكون سببه من قبله ، من جهة إفهامه لهم بالوحي ، فإنه كان عالي البيان ; لأنه
كليم الرحمن ، فبلاغته لا تصل إليها أفهامهم ، فيصير إفصاحه العالي عند فهمهم النازل عقدة عليهم في اللسان ، يحتاج إلى ترجمان ; فإن يقع بعده تكذيب فيكون من قبل أنفسهم ، وبه تتم الحجة عليهم .
وكذلك :
إن كدت لتردين ( الصافات : 56 ) ، هو الإرداء الأخروي الملكوتي .
وكذلك :
أن ترجمون ( الدخان : 20 ) ، ليس هو الرجم بالحجارة ، إنما هو ما يرمونه من بهتانهم .
وكذلك :
فحق وعيد ( ق : 14 ) ،
لمن خاف مقامي وخاف وعيد ( إبراهيم : 14 ) هو الأخروي الملكوتي .
وكذلك : " "
فيقول ربي أكرمن " " ( الفجر : 15 ) ، " "
ربي أهانن " " ( الفجر : 16 ) هذا
[ ص: 33 ] الإنسان يعتبر منزلته عند الله في الملكوت بما يبتليه في الدنيا ، وهذا من الإنسان خطأ ; لأن الله تعالى يبتلي الصالح والطالح ، لقيام حجته على خلقه .
والقسم الثاني من الضرب الأول ; إذا كانت الياء لام الكلمة ، سواء كانت في الاسم أو الفعل نحو :
أجيب دعوة الداع ( البقرة : 186 ) حذفت تنبيها على المخلص لله الذي قلبه ونهايته في دعائه في الملكوت والآخرة ، لا في الدنيا .
وكذلك : " "
الداع إلى شيء نكر " " ( القمر : 6 ) هو داع ملكوتي من عالم الآخرة .
وكذلك :
يوم يأت ( هود : 105 ) ، هو إتيان ملكوتي أخروي آخره متصل بما وراءه من الغيب .
وكذلك : " " المهتد " " ( الكهف : 17 ) .
وكذلك : " " والباد " " ( الحج : 25 ) ، حذف لأنه على غير حال الحاضر الشاهد ، وقد جعل الله لها سرا .
وكذلك :
كالجواب ( سبأ : 13 ) ، من حيث التشبيه ، فإنه ملكوتي ; إذ هو صفة تشبيه لا ظهور لها في الإدراك الملكي .
وكذلك :
يوم التلاق ( غافر : 15 ) و
التناد ( غافر : 32 ) كلاهما ملكوتي أخروي .
وكذلك : " "
والليل إذا يسر " " ( الفجر : 4 ) ، وهو السرى الملكوتي الذي يستدل عليه بآخره من جهة الانقضاء أو بمسير النجوم .
وكذلك : " "
ومن آياته الجوار " " ( الشورى : 32 ) تعتبر من حيث هي آية يدل ملكها على ملكوتها فآخرها بالاعتبار يتصل بالملكوت بدليل قوله :
إن يشأ يسكن الريح فيظللن رواكد ( الشورى : 33 ) .
[ ص: 34 ] وكذلك حذف ياء الفعل من ( يحيي ) إذا انفردت ، وثبتت مع الضمير ، مثل : " "
من يحي العظام " " ( يس : 78 ) ،
قل يحييها ( يس : 79 ) ; لأن حياة الباطن أظهر في العلم من حياة الظاهر ، وأقوى في الإدراك .
الضرب الثاني الذي تسقط فيه الياء في الخط والتلاوة ، فهو اعتبار غيبة عن باب الإدراك جملة ، واتصاله بالإسلام لله في مقام الإحسان ، وهو قسمان : منه ضمير المتكلم ، ومنه لام الفعل .
فالأول إذا كانت الياء ضمير المتكلم فإنها إن كانت للعبد فهو الغائب ، وإن كانت للرب فالغيبة للمذكور معها ، فإن العبد هو الغائب عن الإدراك في ذلك كله ، فهو في هذا المقام مسلم مؤمن بالغيب ، مكتف بالأدلة ، فيقتصر في الخط لذلك على نون الوقاية والكسرة ، ومنه من جهة الخطاب به الحوالة على الاستدلال بالآيات دون تعرض لصفة الذات . ولما كان الغرض من القرآن من جهة الاستدلال واعتبار الآيات وضرب المثال دون التعرض لصفة الذات ، كما قال تعالى :
ويحذركم الله نفسه ( آل عمران : 28 ) ، وقال :
فلا تضربوا لله الأمثال ( النحل : 74 ) كان الحذف في خواتم الآي كثيرا ; مثل :
فاتقون ( البقرة : 41 ) ،
فارهبون ( البقرة : 40 ) ،
وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ( الذاريات : 56 ) ،
وما أريد أن يطعمون ( الذاريات : 57 ) ، وهو كثير جدا .
وكذلك ضمير العبد ، مثل :
إن يردن الرحمن ( يس : 23 ) العبد غائب عن علم إرادة الرحمن ، إنما علمه بها تسليما وإيمانا برهانيا .
وكذلك قوله في العقود :
فلا تخشوا الناس واخشون ( المائدة : 44 ) الناس
[ ص: 35 ] كلي لا يدل على ناس بأعيانهم ولا موصوفين بصفة [ فهم كلي ] ولا يعلم الكلي من حيث هو كلي ، بل من حيث أثر البعض في الإدراك ، ولا يعلم الكلي إلا من حيث هو أثر الجزئي في الإدراك ، فالخشية هنا كلية لشيء غير معلوم الحقيقة ، فوجب أن يكون الله أحق بذلك فإنه حق ، وإن لم نحط به علما كما أمر الله سبحانه بذلك ، ولا يخشى غيره ، وهذا الحذف بخلاف ما جاء في البقرة :
فلا تخشوهم واخشوني ( الآية : 150 ) ضمير الجمع يعود على
الذين ظلموا ( الآية : 165 ) من الناس فهم بعض لا كل ، ظهروا في الملك بالظلم ، فالخشية هنا جزئية ، فأمر سبحانه أن يخشى من جهة ما ظهر كما يجب ذلك من جهة ما ستر .
وكذلك حذفت الياء من : " "
فبشر عباد " " ( الزمر : 17 ) ، و " "
قل يا عباد " " ( الزمر : 10 ) فإنه خطاب لرسوله عليه السلام على الخصوص ، فقد توجه الخطاب إليه في فهمنا ، وغاب العباد كلهم عن علم ذلك ، فهم غائبون عن شهود هذا الخطاب ; لا يعلمونه إلا بوساطة الرسول .
وهذا بخلاف قوله : ( (
يا عبادي لا خوف عليكم ) ) ( الزخرف : 68 ) فإنها ثبتت ; لأنه خطاب لهم في الآخرة غير محجوبين عنه - جعلنا الله منهم إنه منعم كريم - وثبت حرف النداء ، فإنه أفهمهم نداءه الأخروي في موطن الدنيا ، في يوم ظهورهم بعد موتهم ، وفي محل أعمالهم ، إلى حضورهم يوم ظهورهم الأخروي ، بعد موتهم وفي محل جزائهم .
وكذلك :
ياعبادي الذين أسرفوا على ( الزمر : 53 ) ثبت الضمير وحرف النداء في الخط ، فإنه دعاهم من مقام إسلامهم ، وحضرة امتثالهم إلى مقام إحسانهم ، ومثله :
يا عبادي الذين آمنوا في العنكبوت ( الآية : 56 ) فإنه دعاهم من حضرتهم في مقام إيمانهم ، إلى حضرتهم ومقام إحسانهم ، إلى ما لا نعلمه من الزيادة بعد الحسنى .
وكذلك سقطتا في موطن الدعاء مثل :
رب اغفر لي ( نوح : 28 ) حذفت الياء لعدم الإحاطة به عند التوجه إلى الله تعالى لغيبتنا نحن عن الإدراك ، وحذف حرف النداء لأنه أقرب إلينا من أنفسنا ، وأما قوله :
وقيله يارب ( الزخرف : 88 ) فأثبت حرف النداء ;
[ ص: 36 ] لأنه دعا ربه من مرتبة حضوره معهم في مقام الملك ، لقوله : إن هؤلاء ( الزخرف : 88 ) وأسقط حرف ضميره لمغيبه عن ذاته في توجهه في مقام الملكوت ورتبة إحسانه في إسلامه .
وكذلك في مثل : يا قوم ( هود : 63 ) دلالة على أنه خارج عنهم في خطابه ، كما هو ظاهر في الإدراك ، وإن كان متصلا بهم في النسبة الرابطة بينهم في الوجود ، العلوية من الدلائل .
والقسم الثاني : إذا كانت الياء لام الكلمة في الفعل أو الاسم ; فإنها تسقط من حيث يكون معنى الكلمة يعتبر من مبدئه الظاهر شيئا بعد شيء إلى ملكوتية الباطن ، إلى ما لا يدرك منه إلا إيمانا وتسليما ، فيكون حذف الياء منبها على ذلك ، وإن لم يكمل اعتباره في الظاهر من ذلك الخطاب بحسب عرض الخطاب ، مثل :
وسوف يؤت الله المؤمنين أجرا عظيما ( النساء : 146 ) ، هو
ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين ( الزخرف : 71 ) ، وقد ابتدأ ذلك لهم في الدنيا متصلا بالآخرة .
وكذلك : " "
وإن الله لهاد الذين آمنوا " " ( الحج : 54 ) حذفت لأنه يهديهم بما نصب لهم في الدنيا من الدلائل والعبر إلى الصراط المستقيم ، يرفع درجاتهم في هدايتهم إلى حيث لا غاية ، قال الله تعالى :
ولدينا مزيد ( ق : 35 ) ، وكذلك : " "
وما أنت بهاد العمي " " ( الروم : 53 ) في الروم ، هذه الهداية هي الكلية على التفصيل بالتوالي التي ترقي العبد في هدايته من الأرباب إلى ما يدركه العيان ليس ذلك للرسول عليه السلام بالنسبة إلى العيان ، ويدل على ذلك قوله قبلها :
فانظر إلى آثار رحمة الله كيف يحيي الأرض بعد موتها ( الروم : 50 ) فهذا النظر من عالم الملك ذاهبا في النظر إلى عالم الملكوت إلى ما لا يدرك إلا إيمانا وتسليما . وهذا بخلاف الحرف الذي في النمل :
وما أنت بهادي العمي ( النمل : 81 ) فثبتت الياء لأن هذه الهداية كلية كاملة ، بدليل قوله :
إنك على الحق المبين ( النمل : 79 ) .
[ ص: 37 ] وكذلك : " "
بالواد المقدس " " ( طه : 12 ) ، و " "
الواد الأيمن " " ( القصص : 30 ) هما مبدأ التقديس واليمن الذي وصفا به ، فانتقل التقديس واليمن منهما إلى الجمال ، ذاهبا بهما إلى ما لا يحيط بعلمه إلا الله .
وكذلك : " "
واد النمل " " ( النمل : 18 ) هو موضع لابتداء سماع الخطاب من أخفض الخلق - وهى النملة - إلى أعلاهم - وهو الهدهد و الطير - ومن ظاهر الناس ، وباطن الجن إلى قول العفريت إلى قول :
الذي عنده علم من الكتاب إلى ما وراء ذلك من هداية الكتاب إلى مقام الإسلام لله رب العالمين .
وكذلك : " "
وله الجوار المنشآت في البحر " " ( الرحمن : 24 ) سقطت الياء تنبيها على أنها لله من حق إنشائها بعد أن لم تكن ، إلى ما وراء ذلك مما لا نهاية له من صفاتها .
وكذلك : " "
الجوار الكنس " " ( التكوير : 16 ) حذفت الياء تنبيها على أنها تجري من محل اتصافها بالخناس ، إلى محل اتصافها بالكناس ، وذلك يفهم أنه اتصف بالخناس عن حركة تقدمت بالوصف بالجوار الظاهر ، يفهم منه وصف بالجوار الباطن ; وهذا الظاهر مبدأ لفهمه ; كالنجوم الجارية داخل تحت معنى الكلمة