التنبيه الثالث
قسم بعضهم
النسخ من وجه آخر إلى ثلاثة أضرب
الأول : نسخ المأمور به قبل امتثاله ، وهذا الضرب هو النسخ على الحقيقة ، كأمر
الخليل بذبح ولده ، وكقوله تعالى :
إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة ( المجادلة : 12 ) ثم نسخه سبحانه بقوله :
أأشفقتم ( المجادلة : 13 ) الآية .
الثاني : ويسمى نسخا تجوزا ، وهو ما أوجبه الله على من قبلنا كحتم القصاص ولذلك قال عقب تشريع الدية :
ذلك تخفيف من ربكم ورحمة ( البقرة : 178 ) وكذلك ما أمرنا الله به أمرا إجماليا ثم نسخ ، كنسخه التوجه إلى
بيت الله المقدس بالكعبة ، فإن ذلك كان واجبا علينا من قضية أمره باتباع الأنبياء قبله ، وكنسخ صوم يوم عاشوراء برمضان .
[ ص: 173 ] الثالث : ما أمر به لسبب ثم يزول السبب ; كالأمر حين الضعف والقلة بالصبر وبالمغفرة للذين يرجون لقاء الله ونحوه من عدم إيجاب الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، والجهاد ونحوها ، ثم نسخه إيجاب ذلك . وهذا ليس بنسخ في الحقيقة ، وإنما هو نسء ، كما قال تعالى : ( أو ننسأها ) ( البقرة : 106 ) فالمنسأ هو الأمر بالقتال ، إلى أن يقوى المسلمون ، وفي حال الضعف يكون الحكم وجوب الصبر على الأذى .
وبهذا التحقيق تبين ضعف ما لهج به كثير من المفسرين في الآيات الآمرة بالتخفيف أنها منسوخة بآية السيف ، وليست كذلك بل هي من المنسأ ، بمعنى أن كل أمر ورد يجب امتثاله في وقت ما لعلة توجب ذلك الحكم ، ثم ينتقل بانتقال تلك العلة إلى حكم آخر ، وليس بنسخ ، إنما النسخ الإزالة حتى لا يجوز امتثاله أبدا . وإلى هذا أشار
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي في ( الرسالة ) إلى النهي عن
ادخار لحوم الأضاحي من أجل الدافة ، ثم ورد الإذن فيه فلم يجعله منسوخا ، بل من باب زوال الحكم لزوال علته ; حتى لو فجأ أهل ناحية جماعة مضرورون تعلق بأهلها النهي .
ومن هذا قوله تعالى :
ياأيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم ( المائدة : 105 ) الآية ، كان ذلك في ابتداء الأمر ، فلما قوي الحال وجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والمقاتلة عليه ، ثم لو فرض وقوع الضعف كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم في قوله :
nindex.php?page=hadith&LINKID=1018597بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ عاد الحكم ، وقال صلى الله عليه وسلم :
nindex.php?page=hadith&LINKID=1018598فإذا رأيت هوى متبعا وشحا مطاعا [ ص: 174 ] وإعجاب كل ذي رأي برأيه فعليك بخاصة نفسك .
وهو سبحانه وتعالى حكيم أنزل على نبيه صلى الله عليه وسلم حين ضعفه ما يليق بتلك الحال رأفة بمن تبعه ورحمة ، إذ لو وجب لأورث حرجا ومشقة ; فلما أعز الله الإسلام وأظهره ونصره ، أنزل عليه من الخطاب ما يكافئ تلك الحالة من مطالبة الكفار بالإسلام أو بأداء الجزية إن كانوا أهل كتاب ، أو الإسلام أو القتل إن لم يكونوا أهل كتاب .
ويعود هذان الحكمان - أعني المسألة عند الضعف والمسايفة عند القوة - بعود سببهما وليس حكم المسايفة ناسخا لحكم المسالمة ، بل كل منهما يجب امتثاله في وقته .