الرابع :
الإيغال
وسمي به لأن المتكلم قد تجاوز حد المعنى الذي هو آخذ فيه ، وبلغ إلى زيادة على الحد يقال : أوغل في الأرض الفلانية إذا بلغ منتهاها ، فهكذا المتكلم إذا تم معناه ثم تعداه بزيادة فيه فقد أوغل كقوله تعالى : (
أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون ) ( المائدة : 50 ) ، فإن الكلام تم بقوله : (
ومن أحسن من الله حكما ) ، ثم احتاج إلى فاصلة تناسب القرينة الأولى ، فلما أتى بها أفاد معنى زائدا .
وكقوله تعالى : (
ولا تسمع الصم الدعاء إذا ولوا مدبرين ) ( النمل : 80 ) فإن المعنى قد تم بقوله : (
ولا تسمع الصم الدعاء ) ، ثم أراد أن يعلم تمام الكلام بالفاصلة فقال : (
إذا ولوا مدبرين ) .
[ ص: 186 ] ، فإن قيل : ما معنى مدبرين وقد أغنى عنها " ولوا " قلت : لا يغني عنها " ولوا " ، فإن التولي قد يكون بجانب دون جانب بدليل قوله : (
أعرض ونأى بجانبه ) ( الإسراء : 83 ) ، وإن كان ذكر الجانب هنا مجازا . ولا شك أنه سبحانه لما أخبر عنهم أنهم صم لا يسمعون ، أراد تتميم المعنى بذكر توليهم في حال الخطاب ؛ لينفي عنهم الفهم الذي يحصل من الإشارة ; فإن الأصم يفهم بالإشارة ما يفهم السميع بالعبارة ، ثم إن التولي قد يكون بجانب ، مع لحاظه بالجانب الآخر ، فيحصل له إدراك بعض الإشارة ، فجعل الفاصلة مدبرين ليعلم أن التولي كان بجميع الجوانب بحيث صار ما كان مستقبلا مستدبرا ، فاحتجب المخاطب عن المخاطب أو صار من ورائه ، فخفيت عن عينه الإشارة ، كما صم أذناه عن العبارة ، فحصلت المبالغة من عدم الإسماع بالكلية ، وهذا الكلام وإن بولغ فيه بنفي الإسماع ألبتة ؛ فهو من إيغال الاحتياط الذي أدمجت فيه المبالغة في نفي الإسماع .
وقد يأتي الاحتياط في غير المقاطع من مجموع جمل متفرقة في ضروب من الكلام شتى ، يحملها معنى واحد كقوله تعالى : (
قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ) الآية ( الإسراء : 88 ) .
وقوله : (
فأتوا بسورة من مثله ) ( البقرة : 23 ) .
وقوله : (
فأتوا بعشر سور مثله ) ( هود : 13 ) كما يقول الرجل لمن يجحد : ما يستحق علي درهما ولا دانقا ولا حبة ولا كثيرا ولا قليلا . ولو قال : " ما يستحق علي شيئا " لأغنى في الظاهر ، لكن التفصيل أدل على الاحتياط وعلى شدة الاستبعاد في الإنكار .
ومنه قوله تعالى : (
اتبعوا من لا يسألكم أجرا وهم مهتدون ) ( يس : 21 ) فإن المعنى تم
[ ص: 187 ] بقوله : " أجرا " ، ثم زاد الفاصلة لمناسبة رءوس الآي ، فأوغل بها كما ترى ؛ حيث أتى بها لقصد معنى زائد على معنى الكلام .