الرابع والعشرون :
إطلاق الفعل والمراد مقاربته ومشارفته لا حقيقته . كقوله - تعالى - :
فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن ( الطلاق : 2 ) أي قاربن بلوغ الأجل ، أي انقضاء العدة ؛ لأن الإمساك لا يكون بعد انقضاء العدة فيكون بلوغ الأجل تمامه ؛ كقوله - تعالى - :
فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن ( البقرة : 232 ) أي أتممن العدة وأردن مراجعة الأزواج ، ولو كانت مقاربته لم يكن للولي حكم في إزالة الرجعة ؛ لأنها بيد الزوج ، ولو كان الطلاق غير رجعي لم يكن للولي أيضا عليها حكم قبل تمام العدة ، ولا تسمى عاضلا حتى يمنعها تمام العدة من المراجعة .
[ ص: 405 ] ومثله قوله - تعالى - :
فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ( النحل : 61 ) المعنى قارب ، وبه يندفع السؤال المشهور فيها ، إن عند مجيء الأجل لا يتصور تقديم ولا تأخير . وقوله - تعالى - :
كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت ( البقرة : 180 ) أي قارب حضور الموت .
وقوله - تعالى - :
كذلك سلكناه في قلوب المجرمين لا يؤمنون به حتى يروا العذاب الأليم فيأتيهم بغتة ( الشعراء : 200 - 202 ) أي حتى يشارفوا الرؤية ويقاربوها .
ويحتمل أن تحمل الرؤية على حقيقتها ؛ وذلك على أن يكون : يرونه فلا يظنونه عذابا .
وإن يروا كسفا من السماء ساقطا يقولوا سحاب مركوم ( الطور : 44 ) أي يعتقدونه عذابا ، ولا يظنونه واقعا بهم ، وحينئذ فيكون أخذه لهم بغتة بعد رؤيته .
ومن دقيق هذا النوع قوله - تعالى - :
ونادى نوح ربه ( هود : 45 ) المراد قارب النداء ، لا أوقع النداء ، لدخول الفاء في ( فقال ) فإنه لو وقع النداء لسقطت ، وكان ما ذكر تفسيرا للنداء ، كقوله - تعالى - :
هنالك دعا زكريا ربه قال ( آل عمران : 38 ) وقوله :
إذ نادى ربه نداء خفيا قال رب ( مريم : 3 - 4 ) لما فسر النداء سقطت الفاء .
وذكر النحاة أن هذه الفاء تفسيرية ؛ لأنها عطفت مفسرا على مجمل ، كقوله : توضأ فغسل وجهه . وفائدة ذلك أن
نوحا عليه السلام أراد ذلك ، فرد القصد إليه ولم يقع ، لا عن قصد .
ومنه قوله - تعالى - :
وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم ( النساء : 9 ) أي وليخش الذين إن شارفوا أن يتركوا ، وإنما أول الترك بمشارفة الترك ؛ لأن الخطاب للأوصياء إنما يتوجه إليهم قبل الترك ؛ لأنهم بعده أموات .
وقريب منه إطلاق الفعل وإرادة إرادته ، كقوله - تعالى - :
فإذا قرأت القرآن فاستعذ ( النحل : 98 ) أي إذا أردت . وقوله :
إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا ( المائدة : 6 ) أي
[ ص: 406 ] إذا أردتم ، لأن الإرادة سبب القيام . إذا قضى أمرا ( مريم : 35 ) أي إذا أراد .
وإن حكمت فاحكم بينهم ( المائدة : 42 ) أي أردت الحكم .
ومثله :
وإذا حكمتم بين الناس ( النساء : 58 ) .
إذا ناجيتم الرسول ( المجادلة : 12 ) أي أردتم مناجاته
إذا طلقتم النساء ( الطلاق : 1 ) ، وقوله :
من يهد الله فهو المهتدي ( الأعراف : 178 ) قال
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس : من يرد الله هدايته ؛ ولقد أحسن - رضي الله عنه - لئلا يتحد الشرط والجزاء .
وقوله :
وإذا قلتم فاعدلوا ( الأنعام : 152 ) أي إذا أردتم القول .
والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ( الفرقان : 67 ) أي إذا أرادوا الإنفاق .
وقوله - تعالى - :
وكم من قرية أهلكناها فجاءها بأسنا ( الأعراف : 4 ) لأن الإهلاك إنما هو بعد مجيء البأس ؛ وإنما خص هذين الوقتين - أعني البيات والقيلولة - لأنها وقت الغفلة والدعة ، فيكون نزول العذاب فيهما أشد وأفظع .
وقوله - تعالى - :
ما آمنت قبلهم من قرية أهلكناها ( الأنبياء : 6 ) أي أردنا إهلاكها .
فانتقمنا منهم فأغرقناهم ( الأعراف : 136 ) أي فأردنا الانتقام منهم ؛ وحكمته أنا إذا أردنا أمرا نقدر فيه إرادتنا ، وإن كان خارقا للعادة .
وقال
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزمخشري في قوله - تعالى - :
قالوا يانوح قد جادلتنا ( هود : 32 ) أي أردت جدالنا وشرعت فيه ؛ وكان الموجب لهذا التقدير خوف التكرار ؛ لأن " جادلت " " فاعلت " وهو يعطي التكرار ، أو أن المعنى : لم ترد منا غير الجدال له لا النصيحة .
قلت : وإنما عبروا عن إرادة الفعل بالفعل ؛ لأن الفعل يوجد بقدرة الفاعل وإرادته وقصده إليه ، كما عبر بالفعل من القدرة على الفعل في قولهم : الإنسان لا يطير ، والأعمى لا يبصر ؛ أي يقدر على الطيران والإبصار ؛ وإنما حمل على ذلك دون الحمل على ظاهره للدلالة على جواز الصلاة بوضوء
[ ص: 407 ] واحد ، والحمل على الظاهر يوجب أن من جلس يتوضأ . ثم قام إلى الصلاة يلزمه وضوء آخر ، فلا يزال مشغولا بالوضوء ولا يتفرغ للصلاة . وفساده بين .