وأما
التعريض ، فقيل : إنه الدلالة على المعنى من طريق المفهوم ، وسمي تعريضا ؛ لأن المعنى باعتباره يفهم من عرض اللفظ أي من جانبه ، ويسمى التلويح ؛ لأن المتكلم يلوح منه للسامع ما يريده ؛ كقوله - تعالى - :
بل فعله كبيرهم هذا فاسألوهم إن كانوا ينطقون ( الأنبياء : 63 ) لأن غرضه بقوله : (
فاسألوهم ) على سبيل الاستهزاء ، وإقامة الحجة عليهم بما عرض لهم به ؛ من عجز كبير الأصنام عن الفعل ، مستدلا على ذلك بعدم إجابتهم إذا سئلوا ، ولم يرد بقوله :
بل فعله كبيرهم هذا ( الأنبياء : 63 ) نسبة الفعل الصادر عنه إلى الصنم ، فدلالة هذا الكلام عجز كبير الأصنام عن الفعل بطريق الحقيقة .
ومن أقسامه أن يخاطب الشخص والمراد غيره ، سواء كان الخطاب مع نفسه ، أو مع غيره ؛ كقوله - تعالى - :
لئن أشركت ليحبطن عملك ( الزمر : 65 ) ،
ولئن اتبعت أهواءهم ( البقرة : 120 ) .
فإن زللتم من بعد ما جاءتكم البينات ( البقرة : 209 ) تعريضا بأن قومه أشركوا واتبعوا أهواءهم ، وزلوا فيما مضى من الزمان ؛ لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يقع منه ذلك ، فأبرز غير الحاصل في معرض الحاصل ادعاء .
وقوله :
فإن زللتم من بعد ما جاءتكم البينات ( البقرة : 209 ) فإن
الخطاب للمؤمنين والتعريض لأهل الكتاب ؛ لأن الزلل لهم لا للمؤمنين .
فأما الآية الأولى ففيها ثلاثة أمور : مخاطبة النبي - صلى الله عليه وسلم - والمراد غيره ، وإخراج المحال عليه في صورة المشكوك والمراد غيره ، واستعمال المستقبل بصيغة الماضي .
وأمر رابع ؛ وهو " إن " الشرطية قد لا يراد بها إلا مجرد الملازمة التي هي لازمة الشرط والجزاء ، مع العلم باستحالة الشرط أو وجوبه أو وقوعه .
[ ص: 422 ] وعلى هذا يحمل قول من لم ير من المفسرين حمل الخطاب على غيره ؛ إذ لا يلزم من فرض أمر لا بد منه صحة وقوعه ؛ بل يكون في الممكن والواجب والمحال .
ومنه قوله - تعالى - :
قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين ( الزخرف : 81 ) إذا جعلت شرطية لا نافية . ومنه :
إن كنا فاعلين ( الأنبياء : 17 ) .
ومنه قوله - تعالى - :
وما لي لا أعبد الذي فطرني ( يس : 22 ) المراد ما لكم لا تعبدون ؛ بدليل قوله :
وإليه ترجعون ( يس : 22 ) ولولا التعريض لكان المناسب " وإليه أرجع " ، وكذا قوله :
أأتخذ من دونه آلهة ( يس : 23 ) والمراد أتتخذون من دونه آلهة
إن يردن الرحمن بضر لا تغن عني شفاعتهم شيئا ولا ينقذون إني إذا لفي ضلال مبين ولذلك قيل :
آمنت بربكم فاسمعون ( يس : 25 ) دون " ربي " و " أتبعه " " فاسمعوه " .
ووجه حسنه ظاهر ؛ لأنه يتضمن إعلام السامع على صورة لا تقتضي مواجهته بالخطاب المنكر ، كأنك لم تعنه وهو أعلى في محاسن الأخلاق وأقرب للقبول ، وأدعى للتواضع ، والكلام ممن هو رب العالمين نزله بلغتهم ، وتعليما للذين يعقلون .
قيل : ومنه قوله - تعالى - :
قل لا تسألون عما أجرمنا ولا نسأل عما تعملون ( سبأ : 25 ) فحصل المقصود في قالب التلطف ، وكان حق الحال من حيث الظاهر ، لولاه أن يقال : لا تسألون عما عملنا ، ولا نسأل عما تجرمون .
وكذا مثله :
وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين ( سبأ : 24 ) حيث ردد الضلال بينهم وبين نفسهم ، والمراد : إنا على هدى وأنتم في ضلال ، وإنما لم يصرح به لئلا تصير هنا نكتة ، هو أنه خولف في هذا الخطاب بين " على " و " في " بدخول " على " على
[ ص: 423 ] الحق ، " وفي " على الباطل ؛ لأن صاحب الحق ، كأنه على فرس جواد يركض به حيث أراد ، وصاحب الباطل كأنه منغمس في ظلام لا يدري أين يتوجه . قال
السكاكي : ويسمى هذا النوع
الخطاب المنصف ، أي لأنه يوجب أن ينصف المخاطب إذا رجع إلى نفسه استدراجا لاستدراجه الخصم إلى الإذعان والتسليم ، وهو شبيه بالجدل ؛ لأنه تصرف في المغالطات الخطابية .
ومنه قوله - تعالى - :
إنما تنذر الذين يخشون ربهم بالغيب ( فاطر : 18 ) المقصود التعريض بذم من ليست له هذه الخشية ، وأن يعرف أنه لفرط عناده كأنه ليس له أذن تسمع ، ولا قلب يعقل ، وأن الإنذار له كلا إنذار ، وأنه قد أنذر من له هذه الصفة ، وليست له .
وقوله :
إنما يتذكر أولو الألباب ( الرعد : 19 ) القصد التعريض ، وأنهم لغلبة هواهم في حكم من ليس له عقل .
وقوله - تعالى - :
ذق إنك أنت العزيز الكريم ( الدخان : 49 ) نزلت في
أبي جهل ؛ لأنه قال : ما بين أخشبيها - أي جبليها يعني
مكة - أعز مني ولا أكرم ، وقيل : بل خوطب بذلك استهزاء .