الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
صفحة جزء
ولها أسباب :

أحدها : التنبيه على عظم القدرة ، كقوله - تعالى - : هو الذي خلقكم من نفس واحدة ( الأعراف : 189 ) كناية عن آدم .

[ ص: 413 ] ثانيها : فطنة المخاطب ، كقوله - تعالى - في قصة داود : خصمان بغى بعضنا على بعض ( ص : 22 ) فكنى داود بخصم على لسان ملكين تعريضا .

وقوله في قصة النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - وزيد : ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ( الأحزاب : 40 ) أي زيد ولكن رسول الله ( الأحزاب : 40 ) .

وقوله - تعالى - : فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة ( البقرة : 24 ) فإنه كناية عن ألا تعاندوا عند ظهور المعجزة ، فتمسكم هذه النار العظيمة .

وكذا قوله - تعالى - : وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله ( البقرة : 23 ) .

وقوله - تعالى - : إنا جعلنا في أعناقهم أغلالا ( يس : 8 ) الآيات ، فإن هذه تسلية للنبي - صلى الله عليه وسلم - . والمعنى : لا تظن أنك مقصر في إنذارهم ؛ فإنا نحن المانعون لهم من الإيمان ، فقد جعلناهم حطبا للنار ؛ لنقوي التذاذ المؤمن بالنعيم ، كما لا تتبين لذة الصحيح إلا عند رؤية المريض .

ثالثها : ترك اللفظ إلى ما هو أجمل منه ، كقوله - تعالى - : إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة ولي نعجة واحدة ( ص : 23 ) فكنى بالنعجة عن المرأة ، كعادة العرب أنها تكني بها عن المرأة .

وقوله : إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة ( الأنفال : 16 ) كنى بالتحيز عن الهزيمة .

وقوله - تعالى - : إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرا لن تقبل توبتهم ( آل عمران : 90 ) كنى بنفي قبول التوبة عن الموت على الكفر ؛ لأنه يرادفه .

رابعها : أن يفحش ذكره في السمع ، فيكنى عنه بما لا ينبو عن الطبع ، قال - تعالى - : وإذا مروا باللغو مروا كراما ( الفرقان : 72 ) أي كنوا عن لفظه ، ولم يوردوه على صيغته .

ومنه قوله - تعالى - في جواب قوم هود : إنا لنراك في سفاهة ( الأعراف : 66 ) [ ص: 414 ] قال ياقوم ليس بي سفاهة ولكني رسول من رب العالمين ( الأعراف : 67 ) فكنى عن تكذيبهم بأحسن .

ومنه قوله : ولكن لا تواعدوهن سرا ( البقرة : 235 ) فكنى عن الجماع بالسر . وفيه لطيفة أخرى ، لأنه يكون من الآدميين في السر غالبا ، ولا يسره - ما عدا الآدميين - إلا الغراب . فإنه يسره ؛ ويحكى أن بعض الأدباء أسر إلى " أبي علي الحاتمي " كلاما ، فقال : ليكن عندك أخفى من سفاد الغراب ، ومن الراء في كلام الألثغ ، فقال : نعم يا سيدنا ؛ ومن ليلة القدر ، وعلم الغيب .

ومن عادة القرآن العظيم الكناية عن الجماع باللمس والملامسة والرفث ، والدخول ، والنكاح ، ونحوهن ، قال - تعالى - : فالآن باشروهن ( البقرة : 187 ) فكنى بالمباشرة عن الجماع لما فيه من التقاء البشرتين .

وقوله - تعالى - : أو لامستم النساء ( النساء : 43 ) إذ لا يخلوا الجماع عن الملامسة .

وقوله في الكناية عنهن : هن لباس لكم وأنتم لباس لهن ( البقرة : 187 ) واللباس من الملابسة ، وهي الاختلاط والجماع .

وكنى عنهن في موضع آخر بقوله : نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم ( البقرة : 223 ) .

وقوله - تعالى - : وراودته التي هو في بيتها ( يوسف : 23 ) كناية عما تطلب المرأة من الرجل .

وقوله - تعالى - : فلما تغشاها حملت حملا خفيفا ( الأعراف : 189 ) .

ومنه قوله - تعالى - في مريم وابنها : كانا يأكلان الطعام ( المائدة : 75 ) فكنى بأكل الطعام عن البول والغائط ؛ لأنهما منه مسببان ، إذ لا بد للآكل منهما ، لكن استقبح في المخاطب ذكر الغائط ، فكنى به عنه .

فإن قيل : فقد صرح به في قوله - تعالى - : أو جاء أحد منكم من الغائط ( المائدة : 6 ) .

قلنا : لأنه جاء على خطاب العرب وما [ ص: 415 ] يألفون ؛ والمراد تعريفهم الأحكام ، فكان لا بد من التصريح به ؛ على أن الغائط أيضا كناية عن النجو ؛ وإنما هو في الأصل اسم للمكان المنخفض من الأرض ، وكانوا إذا أرادوا قضاء حاجتهم أبعدوا عن العيون إلى منخفض من الأرض ، فسمي منه لذلك ، ولكنه كثر استعماله في كلامهم ؛ فصار بمنزلة التصريح .

وما ذكرناه في قوله - تعالى - : كانا يأكلان الطعام ( المائدة : 75 ) هو المشهور وأنكره الجاحظ ، وقال بل الكلام على ظاهره ، ويكفي في الدلالة على عدم الإلهية نفس أكل الطعام ؛ لأن الإله هو الذي لا يحتاج إلى شيء يأكله ، ولأنه كما لا يجوز أن يكون المعبود محدثا ، كذلك لا يجوز أن يكون طاعما ، قال الخفاجي : وهذا صحيح .

( ويقال لهما ) : الكناية عن الغائط فيه تشنيع وبشاعة على من اتخذها آلهة ، فأما قوله - تعالى - : وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق ( الفرقان : 20 ) فهو على حقيقته .

قال الوزير ابن هبيرة : وفي هذه الآية فضل العالم المتصدي للخلق على الزاهد المنقطع ، فإن النبي كالطبيب ، والطبيب يكون عند المرضى ، فلو انقطع عنهم هلكوا .

ومنه قوله - تعالى - : فجعلهم كعصف مأكول ( الفيل : 5 ) كنى به عن مصيرهم إلى العذرة ، فإن الورق إذا أكل انتهى حاله إلى ذلك .

[ ص: 416 ] ، وقوله - تعالى - : وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا ( فصلت : 21 ) أي لفروجهم ، فكنى عنها بالجلود على ما ذكره المفسرون .

فإن قيل : فقد قال الله - تعالى - : والتي أحصنت فرجها ( الأنبياء : 91 ) فصرح بالفرج ؟ قلنا : أخطأ من توهم هنا الفرج الحقيقي ، وإنما هو من لطيف الكنايات وأحسنها ، وهي كناية عن فرج القميص ، أي لم يعلق ثوبها ريبة ، فهي طاهرة الأثواب ، وفروج القميص أربعة : الكمان ، والأعلى ، والأسفل ، وليس المراد غير هذا ، فإن القرآن أنزه معنى ، وألطف إشارة ، وأملح عبارة من أن يريد ما ذهب إليه وهم الجاهل ، لاسيما والنفخ من روح القدس بأمر القدوس ، فأضيف القدس إلى القدوس ، ونزهت القانتة المطهرة عن الظن الكاذب والحدس . ذكره صاحب التعريف والإعلام .

ومنه قوله - تعالى - : الخبيثات للخبيثين ( النور : 26 ) يريد الزناة . وقوله - تعالى - : ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن ( الممتحنة : 12 ) فإنه كناية عن الزنا . وقيل : أراد طرح الولد على زوجها من غيره ؛ لأن بطنها بين يديها ورجليها وقت الحمل .

وقوله - تعالى - : يجعلون أصابعهم في آذانهم ( البقرة : 19 ) وإنما يوضع في الأذن السبابة فذكر الإصبع وهو الاسم العام أدبا ؛ لاشتقاقها من السب ، ألا تراهم كنوا عنها بالمسبحة ، والدعاءة ، وإنما يعبر بهما عنها لأنها ألفاظ مستحدثة . قاله الزمخشري .

وقال الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد في شرح الإلمام : يمكن أن يقال أن ذكر [ ص: 417 ] الإصبع هنا جامع لأمرين : أحدهما : التنزه عن اللفظ المكروه ، والثاني : حط منزلة الكفار عن التعبير باللفظ المحمود ، والأعم يفيد المقصودين معا ، فأتى به وهو لفظ الإصبع ، وقد جاء في الحديث الأمر بالتعبير بالأحسن مكان القبيح كما جاء في حديث : من سبقه الحدث في الصلاة فليأخذ بأنفه ويخرج أمر بذلك إرشادا إلى إيهام سبب أحسن من الحدث ، وهو الرعاف ، وهو أدب حسن من الشرع في ستر العورة وإخفاء القبيح ، وقد صح نهيه - عليه السلام - أن يقال : الكرم ، وقال : إنما الكرم الرجل المسلم كره الشارع تسميتها بالكرم لأنها تعتصر منها أم الخبائث .

وحديث : كان يصيب من الرأس وهو صائم قيل : هو إشارة إلى القبلة ، وليس لفظ القبلة مستهجنا .

وقوله : إياكم وخضراء الدمن .

[ ص: 418 ] خامسها : تحسين اللفظ كقوله - تعالى - : بيض مكنون ( الصافات : 49 ) فإن العرب كانت من عادتهم الكناية عن حرائر النساء بالبيض ، قال امرؤ القيس :


وبيضة خدر لا يرام خباؤها تمتعت من لهو بها غير معجل

.

وقوله - تعالى - : وثيابك فطهر ( المدثر : 4 ) ومثله قول عنترة :


فشككت بالرمح الطويل ثيابه     ليس الكريم على القنا بمحرم

.

سادسها : قصد البلاغة كقوله - تعالى - : أومن ينشأ في الحلية وهو في الخصام غير مبين ( الزخرف : 18 ) فإنه - سبحانه - كنى عن النساء بأنهن ينشأن في الترفه والتزين والتشاغل عن النظر في الأمور ودقيق المعاني ، ولو أتى بلفظ النساء لم يشعر بذلك ؛ والمراد نفي حمل ذلك - أعني الأنوثة - عن الملائكة ، وكونهم بنات الله ؛ تعالى الله عن ذلك .

وقوله : فما أصبرهم على النار ( البقرة : 175 ) أي هم في التمثيل بمنزلة المتعجب منه بهذا التعجب .

سابعها : قصد المبالغة في التشنيع ، كقوله - تعالى - حكاية عن اليهود لعنهم الله : وقالت اليهود يد الله مغلولة ( المائدة : 64 ) فإن الغل كناية عن البخل ، كقوله - تعالى - : ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ( الإسراء : 29 ) لأن جماعة كانوا متمولين ، فكذبوا النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فكف الله عنهم ما أعطاهم ، وهو سبب نزولها .

وأما قوله - تعالى - : غلت أيديهم ( المائدة : 64 ) فيحمل على المجاز على وجه الدعاء والمطابقة للفظ ، ولهذا قيل : إنهم أبخل خلق الله ، والحقيقة أنهم تغل أيديهم في الدنيا بالإسار ، وفي الآخرة بالعذاب وأغلال النار .

وقوله : بل يداه مبسوطتان ( المائدة : 64 ) [ ص: 419 ] كناية عن كرمه ، وثنى اليد وإن أفردت في أول الآية ، ليكون أبلغ في السخاء والجود .

ثامنها : التنبيه على مصيره كقوله - تعالى - : تبت يدا أبي لهب ( المسد : 1 ) أي جهنمي مصيره إلى اللهب .

وكقوله : حمالة الحطب ( المسد : 4 ) أي نمامة ومصيرها إلى أن تكون حطبا لجهنم .

تاسعها : قصد الاختصار ، ومنه الكناية عن أفعال متعددة بلفظ " فعل " ، كقوله - تعالى - : لبئس ما كانوا يفعلون ( المائدة : 79 ) ، ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به ( النساء : 66 ) ، فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا ( البقرة : 24 ) أي فإن لم تأتوا بسورة من مثله ، ولن تأتوا .

عاشرها : أن يعمد إلى جملة ورد معناها على خلاف الظاهر ، فيأخذ الخلاصة منها من غير اعتبار مفرداتها بالحقيقة أو المجاز ، فتعبر بها عن مقصودك ؛ وهذه الكناية استنبطها الزمخشري ، وخرج عليها قوله - تعالى - : الرحمن على العرش استوى ( طه : 5 ) فإنه كناية عن الملك ؛ لأن الاستواء على السرير لا يحصل إلا مع الملك ، فجعلوه كناية عنه .

وكقوله - تعالى - : والأرض جميعا قبضته يوم القيامة ( الزمر : 67 ) الآية ، إنه كناية عن عظمته وجلالته من غير ذهاب بالقبض واليمين إلى جهتين : حقيقة ومجاز .

وقد اعترض الإمام فخر الدين على ذلك بأنها تفتح باب تأويلات الباطنية ، فلهم أن يقولوا : المراد من قوله : فاخلع نعليك ( طه : 12 ) الاستغراق في الخدمة من غير الذهاب إلى نعل وخلعه ، وكذا نظائره . انتهى .

وهذا مردود لأن الكناية إنما يصار إليها عند عدم إجراء اللفظ على ظاهره ، كما سبق من الأمثلة ، بخلاف خلع النعلين ونحوه .

تنبيهان

الأول : في أنه هل يشترط في الكناية قرينة كالمجاز ؟ هذا ينبني على الخلاف السابق [ ص: 420 ] أنها مجاز أم لا . وقال الزمخشري في قوله - تعالى - : ولا ينظر إليهم ( الآية : 77 ) في سورة آل عمران : إنه مجاز عن الاستهانة بهم ، والسخط عليهم ، تقول : فلان لا ينظر إلى فلان ، تريد نفي اعتداده به وإحسانه إليه ، قال : وأصله فيمن يجوز عليه النظر الكناية ؛ لأن من اعتد بالإنسان التفت إليه ، وأعاره نظر عينيه ، ثم كثر حتى صار عبارة عن الاعتداد والإحسان ، وإن لم يكن ثم نظر ، ثم جاء فيمن لا يجوز عليه النظر مجردا لمعنى الإحسان ، مجازا عما وقع كناية عنه فيمن يجوز عليه النظر . انتهى .

وهذا بناء منه على مذهبه الفاسد في نفي الرؤية ؛ وفيه تصريح بأن الكناية مجاز وبه صرح في قوله - تعالى - : ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء ( البقرة : 235 ) . وصرح الشيخ عبد القاهر الجرجاني في الدلائل بأن الكناية لا بد لها من قرينة .

الثاني : قيل من عادة العرب أنها لا تكني عن الشيء بغيره ؛ إلا إذا كان يقبح ذكره ، وذكروا احتمالين في قوله : وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض ( النساء : 21 ) . أحدهما : أنه كنى بالإفضاء عن الإصابة . والثاني : أنه كنى عن الخلوة .

[ ص: 421 ] ورجحوا الأول ؛ لأن العرب إنما تكني عما يقبح ذكره في اللفظ ، ولا يقبح ذكر الخلوة . وهذا حسن لكنه يصلح للترجيح .

وأما دعوى كون العرب لا تكني إلا عما يقبح ذكره فغلط ، فكنوا عن القلب بالثوب ، كما في قوله - تعالى - : وثيابك فطهر ( المدثر : 4 ) وغير ذلك مما سبق .

التالي السابق


الخدمات العلمية