البحث الخامس
أنه
يقرب من الالتفات نقل الكلام إلى غيره
وإنما يفعل ذلك إذا ابتلي العاقل بخصم جاهل متعصب ، فيجب أن يقطع الكلام معه في تلك المسألة ؛ لأنه كلما كان خوضه معه أكثر ، كان بعده عن القبول أشد ، فالوجه حينئذ أن يقطع الكلام معه في تلك المسألة ، وأن يؤخذ في كلام آخر أجنبي ويطنب فيه ، بحيث ينسى الأول ، فإذا اشتغل خاطره به أدرج له أثناء الكلام الأجنبي مقدمة تناسب ذلك المطلب الأول ؛ ليتمكن من انقياده .
وهذا ذكره الإمام
أبو الفضل في كتاب " درة التنزيل " ، وجعل منه قوله تعالى :
[ ص: 398 ] اصبر على ما يقولون واذكر عبدنا داود ( ص : 17 ) قال : إن قوله : " واذكر " ليس متصلا بما قبله ، بل نقلا لهم عما هم عليه ، والمقدمة المدرجة قوله :
وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا ( ص : 27 ) إلى قوله :
كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولو الألباب ( ص : 29 ) .
وهذا الذي قاله يخرج الآية عن الاتصال ، مع أن في الاتصال وجوها مذكورة في موضعها .
وألحق به الأستاذ
أبو جعفر بن الزبير قوله تعالى :
ق والقرآن المجيد بل عجبوا . . . ( ق : 1 - 2 ) الآية ، فهذا إنكار منهم للبعث واستبعاد ، نحو الوارد في سورة " ص " فأعقب ذلك بما يشبه الالتفات بقوله :
أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها ( ق : 6 ) إلى قوله في ماء السماء :
وأحيينا به بلدة ميتا كذلك الخروج ( ق : 11 ) فبعد العدول عن مجاوبتهم في قولهم :
ذلك رجع بعيد ( ق : 3 ) وذكر اختلافهم المسبب عن تكذيبهم ، في قوله :
بل كذبوا بالحق لما جاءهم فهم في أمر مريج ( ق : 5 ) صرف تعالى الكلام إلى نبيه والمؤمنين فقال :
أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها ( ق : 6 ) إلى قوله :
وأحيينا به بلدة ميتا ( ق : 11 ) وذلك حكمة تدرك مشاهدة لا يمكنهم التوقف في شيء منه ولا حفظ عنهم إنكاره ، فعند تكرر هذا قال تعالى :
كذلك الخروج ( ق : 11 ) .
ومما يقرب من الالتفات أيضا الانتقال من خطاب الواحد والاثنين والجمع إلى خطاب آخر ، وهو ستة أقسام كما سبق تقسيم الالتفات :
المشهور أحدها :
الانتقال من خطاب الواحد لخطاب الاثنين ؛ كقوله تعالى :
أجئتنا لتلفتنا عما وجدنا عليه آباءنا وتكون لكما الكبرياء في الأرض ( يونس : 78 ) .
الثاني :
من خطاب الواحد إلى خطاب الجمع :
ياأيها النبي إذا طلقتم النساء ( الطلاق : 1 ) .
[ ص: 399 ] الثالث :
من الاثنين إلى الواحد كقوله :
فمن ربكما ياموسى ( طه : 49 )
فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى ( طه : 117 ) .
الرابع :
من الاثنين إلى الجمع كقوله :
وأوحينا إلى موسى وأخيه أن تبوآ لقومكما بمصر بيوتا واجعلوا بيوتكم قبلة وأقيموا الصلاة وبشر المؤمنين ( يونس : 87 ) وفيه انتقال آخر من الجمع إلى الواحد ، فإنه ثنى ثم جمع ، ثم وحد ، توسعا في الكلام ، وحكمة التثنية أن
موسى وهارون هما اللذان يقرران قواعد النبوة ويحكمان في الشريعة ، فخصهما بذلك ، ثم خاطب الجميع باتخاذ البيوت قبلة للعبادة ؛ لأن الجميع مأمورون بها ، ثم قال
لموسى وحده :
وبشر المؤمنين ( يونس : 87 ) لأنه الرسول الحقيقي الذي إليه البشارة والإنذار .
الخامس
من الجمع إلى الواحد كقوله تعالى :
وأقيموا الصلاة وبشر المؤمنين ( يونس : 87 ) وقد سبق حكمته ، ومن نظائره قول بعضهم في قوله تعالى :
قلنا اهبطوا منها جميعا ( البقرة : 38 ) ثم قال :
فإما يأتينكم مني هدى ( البقرة : 38 ) ولم يقل " منا " مع أنه للجمع أو للواحد المعظم نفسه ، وحكمته المناسبة للواقع ، فالهدى لا يكون إلا من الله ، فناسب الخاص للخاص .
السادس :
من الجمع إلى التثنية ؛ كقوله :
يامعشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا ( الرحمن : 33 ) إلى قوله :
فبأي آلاء ربكما تكذبان ( الرحمن : 34 ) .
السابع : ذكر بعضهم من الالتفات
تعقيب الكلام بجملة مستقلة ملاقية له في المعنى على طريق المثل أو الدعاء ؛ فالأول كقوله :
وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا ( الإسراء : 81 ) والثاني كقوله تعالى :
ثم انصرفوا صرف الله قلوبهم ( التوبة : 127 ) .
الثامن :
من الماضي إلى الأمر ؛ كقوله تعالى :
قل أمر ربي بالقسط وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد وادعوه ( الأعراف : 29 ) وقوله :
وأحلت لكم الأنعام إلا ما يتلى عليكم فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور حنفاء لله ( الحج : 30 - 31 ) .
[ ص: 400 ] التاسع :
من المستقبل إلى الأمر ؛ تعظيما لحال من أجري عليه المستقبل . وبالضد من ذلك في حق من أجري عليه الأمر ؛ كقوله تعالى :
ياهود ما جئتنا ببينة ( هود : 53 ) إلى قوله :
بريء مما تشركون ( هود : 54 ) فإنه إنما قال : أشهد الله ( هود : 54 ) واشهدوا ( هود : 54 ) ولم يقل : " وأشهدكم " ؛ ليكون موازنا له ، ولا شك أن معنى إشهاد الله على البراءة صحيح في معنى يثبت التوحيد ؛ بخلاف إشهادهم ، فما هو إلا تهاون بدينهم ، ودلالة على قلة المبالاة به ، فلذلك عدل عن اللفظ الأول ؛ لاختلاف ما بينهما ، وجيء به على لفظ الأمر كما تقول للرجل منكرا : اشهد علي أني أحبك .
العاشر :
من الماضي إلى المستقبل ؛ نحو :
والله الذي أرسل الرياح فتثير ( فاطر : 9 )
فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير ( الحج : 31 )
إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله ( الحج : 25 ) .
والحكمة في هذه أن الكفر لما كان من شأنه إذا حصل أن يستمر حكمه عبر عنه بالماضي ، ليفيد ذلك مع كونه باقيا أنه قد مضى عليه زمان ؛ ولا كذلك الصد عن سبيل الله ، فإن حكمه إنما ثبت حال حصوله مع أن في الفعل المستقبل إشعارا بالتكثير ، فيشعر قوله : " ويصدون " أنه في كل وقت بصدد ذلك ، ولو قال : " وصدوا " لأشعر بانقطاع صدهم .
الحادي عشر : عكسه ، كقوله :
ويوم ينفخ في الصور ففزع من في السماوات ( النمل : 87 )
ويوم نسير الجبال وترى الأرض بارزة وحشرناهم ( الكهف : 47 ) .
قالوا : والفائدة في الفعل
الماضي إذا أخبر به عن المستقبل الذي لم يوجد ، أنه أبلغ
[ ص: 401 ] وأعظم موقعا ، لتنزيله منزلة الواقع ، والفائدة في المستقبل إذا أخبر به عن الماضي لتتبين هيئة الفعل باستحضار صورته ، ليكون السامع كأنه شاهد ، وإنما عبر في الأمر بالتوبيخ بالماضي بعد قوله : ينفخ ( النمل : 87 ) للإشعار بتحقيق الوقوع وثبوته ، وأنه كائن لا محالة ؛ كقوله :
وبرزوا لله جميعا ( إبراهيم : 21 ) والمعنى : يبرزون ، وإنما قال : وحشرناهم ( الكهف : 47 ) بعد نسير ( الكهف : 47 ) وترى ( الكهف : 47 ) وهما مستقبلان ؛ لذلك .