وضع جمع القلة موضع الكثرة
لأن الجموع يقع بعضها موقع بعض ؛ لاشتراكها في مطلق الجمعية ، كقوله تعالى :
وهم في الغرفات آمنون ( سبأ : 27 ) فإن المجموع بالألف والتاء للقلة ، وغرف الجنة لا تحصى .
وقوله :
هم درجات عند الله ( آل عمران : 163 ) ورتب الناس في علم الله أكثر من العشرة لا محالة .
وقوله :
الله يتوفى الأنفس ( الزمر : 42 ) .
وقوله :
واستيقنتها أنفسهم ( النمل : 14 ) وهو كثير .
وقيل : سبب ذلك في الآية الأولى دخول الألف واللام الجنسية ؛ فيكون ذلك تكثيرا لها ، وكان دخولها على جمع القلة أولى من دخولها على جمع الكثرة ، إشارة إلى قلة من يكون فيها ، ألا ترى أنه لا يكون فيها إلا المؤمنون .
وقد نص سبحانه على قلتهم بالإضافة إلى غيرهم في قوله تعالى :
إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليل ما هم ( ص 24 ) فيكون التكثير الداخل في قوله : وهم في الغرفات ( سبأ : 37 ) لا من جهة وضع جمع القلة موضع جمع الكثرة ، ولكن من جهة ما اقتضته الألف واللام للجنس .
واعلم أن جموع التكثير الأربعة وجمعي التصحيح ، أعني جمع التأنيث وجمع التذكير ، كل ذلك للقلة ؛ أما جموع التكسير فبالوضع ، وأما جمعا التصحيح ؛ فلأنهما أقرب إلى التثنية ، وهي أقل العدد فوجب أن يكون الجمع المشابه لها بمنزلتها في القلة ، وما عداها من الجموع فيرد تارة للقلة وتارة للكثرة بحسب القرائن ، قال تعالى :
[ ص: 417 ] الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين ( الفاتحة : 7 ) هدى للمتقين ( البقرة : 2 )
وأولئك هم المفلحون ( البقرة : 5 )
إنما نحن مصلحون ( البقرة : 11 )
ألا إنهم هم المفسدون ( البقرة : 12 ) مستهزئون ( البقرة : 14 )
وما كانوا مهتدين ( البقرة : 16 )
وكنتم أمواتا ( البقرة : 28 )
وعلم آدم الأسماء كلها ( البقرة : 31 )
فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين ( البقرة : 31 )
بسمعهم وأبصارهم ( البقرة : 20 )
أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم ( البقرة : 44 )
إذا طلقتم النساء ( الطلاق : 1 )
ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ( التوبة : 70 )
ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم ( البقرة : 85 )
ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات بل أحياء ( البقرة : 154 )
وبينات من الهدى ( البقرة : 185 )
واتقون ياأولي الألباب ( البقرة : 197 )
باللغو في أيمانكم ( المائدة : 89 )
أن ينكحن أزواجهن ( البقرة : 232 ) .
حافظوا على الصلوات ( البقرة : 238 ) فإن قلت : ليس هذا منه ، بل هي للقلة ؛ لأنها خمس .
قلت : لو كان كذلك لما صح
لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ( البقرة : 236 )
فيما عرضتم به من خطبة النساء ( البقرة : 235 ) فالمراد منها واحد ، والجواب عن أحدهما الجواب عن الآخر .
وقوله تعالى :
من كل الثمرات ( البقرة : 266 )
إن تبدوا الصدقات ( البقرة : 271 )
الصابرين والصادقين ( آل عمران : 17 ) الآية
والمؤمنين والمؤمنات ( الأحزاب : 35 ) الآية . ولا تحصى كثرة .
ومن شواهد مجيء جمع القلة مرادا به الكثرة قول
حسان رضي الله عنه :
لنا الجفنات الغر يلمعن في الضحى وأسيافنا يقطرن من نجدة دما
وحكي أن
النابغة قال له : قد قللت جفناتك وأسيافك .
[ ص: 418 ] وطعن
الفارسي في هذه الحكاية لوجود وضع جمع القلة موضع الكثرة فيما له جمع كثرة ، وفيما لا جمع كثرة له في كلامهم ، وصححها بعضهم . قال : يعني أنه كان ينبغي
لحسان تجنب اللفظ الذي أصله أن يكون في القلة ، وإن كان جائزا في اللسان وضعه لقرينة ، إذا كان الموضع موضع مدح ، أو أنه وإن كانت القلة توضع لمعنى الكثرة لكن ليس في كل مقام .
ومن المشكل قوله تعالى :
فيضاعفه له أضعافا كثيرة ( البقرة : 245 ) فإن ( أضعافا ) جمع قلة ، فكيف جاء بعد كثرة ؟ !
والجواب أن جمع القلة يستعمل مرادا به الكثرة ، وهذا منه .