مشاكلة اللفظ للمعنى
ومتى كان اللفظ جزلا كان المعنى كذلك ، ومنه قوله تعالى :
إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ( آل عمران : 59 ) ولم يقل من " طين " كما أخبر به سبحانه في غير موضع
إني خالق بشرا من طين ( ص : 71 )
خلقتني من نار وخلقته من طين ( ص : 76 ) إنما عدل عن الطين الذي هو مجموع الماء والتراب إلى ذكر مجرد التراب لمعنى لطيف ، وذلك أنه أدنى العنصرين وأكثفهما ، لما كان المقصود مقابلة من ادعى في
المسيح الإلهية أتى بما يصغر أمر خلقه عند من ادعى ذلك ؛ فلهذا كان الإتيان بلفظ التراب
[ ص: 437 ] أمس في المعنى من غيره من العناصر ؛ ولما أراد سبحانه الامتنان على
بني إسرائيل بعيسى عليه السلام أخبرهم أنه يخلق لهم من الطين كهيئة الطير تعظيما لأمر ما يخلقه بإذنه ، إذ كان المعنى المطلوب الاعتداد عليهم بخلقه ليعظموا قدر النعمة به .
ومنه قوله تعالى :
والله خلق كل دابة من ماء ( النور : 45 ) فإنه سبحانه إنما اقتصر على ذكر الماء دون بقية العناصر ؛ لأنه أتى بصيغة الاستغراق ، وليس في العناصر الأربع ما يعم جميع المخلوقات إلا الماء ؛ ليدخل الحيوان البحري فيها .
ومنه قوله تعالى :
تالله تفتأ تذكر يوسف حتى تكون حرضا أو تكون من الهالكين ( يوسف : 85 ) فإنه سبحانه أتى بأغرب ألفاظ القسم بالنسبة إلى أخواتها ، فإن " والله " و " بالله " أكثر استعمالا وأعرف من " تالله " لما كان الفعل الذي جاور القسم أغرب الصيغ التي في بابه ؛ فإن ( كان ) وأخواتها أكثر استعمالا من ( تفتأ ) وأعرف عند العامة ؛ ولذلك أتى بعدها بأغرب ألفاظ الهلاك بالنسبة وهي لفظة ( حرض ) ولما أراد غير ذلك قال :
وأقسموا بالله جهد أيمانهم ( فاطر : 42 ) لما كانت جميع الألفاظ مستعملة .
ومنه قوله تعالى :
ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار ( هود : 113 ) فإنه سبحانه لما نهى عن الركون إلى الظالمين ، وهو الميل إليهم والاعتماد عليهم ، وكان دون ذلك مشاركتهم في الظلم ، أخبر أن العقاب على ذلك دون العقاب على الظلم ؛ وهو مس النار الذي هو دون الإحراق والاضطرام ، وإن كان المس قد يطلق ويراد به الإشعار بالعذاب .
ومنه قوله تعالى :
لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك ( المائدة : 28 ) فإنه نشأ في الآية سؤال ، وهو أن
الترتيب في الجمل الفعلية تقديم الفعل وتعقيبه بالفاعل ، ثم بالمفعول ، فإن كان في الكلام مفعولان : أحدهما تعدى وصول الفعل
[ ص: 438 ] إليه بالحرف ، والآخر تعدى بنفسه ، قدم ما تعدى إليه الفعل بنفسه ؛ وعلى ذلك جاء قوله تعالى :
وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ( الفتح : 24 ) .
إذا ثبت هذا ، فقد يقال : كيف توخى حسن الترتيب في عجز الآية دون صدرها ؟ والجواب أن حسن الترتيب منع منه في صدر الآية مانع أقوى ، وهو مخافة أن يتوالى ثلاثة أحرف متقاربات المخرج ، فيثقل الكلام بسبب ذلك ؛ فإنه لو قيل : " لئن بسطت يدك إلي " والطاء والتاء والياء متقاربة المخرج ، فلذلك حسن تقديم المفعول الذي تعدى الفعل إليه بالحرف على الفعل الذي تعدى إليه بنفسه ، ولما أمن هذا المحذور في عجز الآية لما اقتضته البلاغة من الإتيان باسم الفاعل موضع الجملة الفعلية ؛ لتضمنه معنى الفعل الذي تصح به المقابلة ، جاء الكلام على ترتيبه ، من تقديم المفعول الذي تعدى الفعل إليه بنفسه ، على المفعول الذي تعدى إليه بحرف الجر ، وهذا أمر يرجع إلى تحسين اللفظ ؛ وأما المعنى فعلى نظم الآية ؛ لأنه لما كان الأول حريصا على التعدي على الغير قدم المتعدي على الآلة ، فقال :
إلي يدك ولما كان الثاني غير حريص على ذلك ؛ لأنه نفاه عنه ، قدم الآلة فقال :
يدي إليك ويدل لهذا أنه عبر عن الأول بالفعل ، وفي الثاني بالاسم .
ويؤيد ذلك أيضا قوله تعالى في سورة الممتحنة :
إن يثقفوكم يكونوا لكم أعداء ويبسطوا إليكم أيديهم وألسنتهم بالسوء ( الممتحنة : 2 ) لأنه لما نسبهم للتعدي الزائد قدم ذكر المبسوط إليهم على الآلة ؛ وذلك الجواب السابق لا يمكن في هذه الآية .
ومثله قوله تعالى :
ليجزي الذين أساءوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى ( النجم : 31 ) مقتضى الصناعة أن يؤتى بالتجنيس للازدواج في صدر الآية ،
[ ص: 439 ] كما أتي به في عجزها ، لكن منعه
توخي الأدب والتهذيب في نظم الكلام ؛ وذلك أنه لما كان الضمير الذي في " يجزي " عائدا على الله سبحانه ، وجب أن يعدل عن لفظ المعنى الخاص إلى رديفه ، حتى لا تنسب السيئة إليه سبحانه ، فقال في موضع السيئة : بما عملوا فعوض عن تجنيس المزاوجة بالإرداف لما فيه من الأدب مع الله بخلاف قوله :
وجزاء سيئة سيئة مثلها ( الشورى : 40 ) فإن هذا المحذور منه مفقود ، فجرى الكلام على مقتضى الصناعة .
ومنه قوله تعالى :
وأنه هو رب الشعرى ( النجم : 49 ) فإنه سبحانه خص الشعرى بالذكر دون غيرها من النجوم ، وهو رب كل شيء ؛ لأن العرب ظهر فيهم رجل يعرف
بابن أبي كبشة عبد الشعرى ودعا خلقا إلى عبادتها .
وقوله تعالى :
وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم ( الإسراء : 44 ) ولم يقل : " لا تعلمون " لما في الفقه من الزيادة على العلم .
وقوله حكاية عن
إبراهيم :
ياأبت إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن ( مريم : 45 ) فإنه لم يخل هذا الكلام من حسن الأدب مع أبيه ؛ حيث لم يصرح فيه بأن العذاب لاحق له ، ولكنه قال :
إني أخاف ( مريم : 45 ) فذكر الخوف والمس ، وذكر العذاب ونكره ، ولم يصفه بأنه يقصد التهويل ، بل قصد استعطافه ، ولهذا ذكر الرحمن ولم يذكر المنتقم ولا الجبار ، على حد قوله :
فما يوجع الحرمان من كف حازم كما يوجع الحرمان من كف رازق
ومنه قوله تعالى :
ولقد استهزئ برسل من قبلك فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزئون ( الأنعام : 10 ) فإنه قد يقال : ما الحكمة في التعبير بالسخرية دون الاستهزاء ؟ وهلا قيل : " فحاق بالذين استهزءوا بهم " ليطابق ما قبله ؟
[ ص: 440 ] والجواب أن الاستهزاء هو إسماع الإساءة ، والسخرية قد تكون في النفس ، ولهذا يقولون : سخرت منه ، كما يقولون : عجبت منه ، ولا يقال : تجنب ذلك لما في ذلك من تكرار الاستهزاء ثلاث مرات ؛ لأنه قد كرر السخرية ثلاثا في قوله تعالى :
إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون ( هود : 38 ) وإنما لم يقل : نستهزئ بكم ؛ لأن الاستهزاء ليس من فعل الأنبياء .
وأما قوله :
الله يستهزئ بهم فالعرب تسمي الجزاء على الفعل باسم الفعل ؛ كقوله :
نسوا الله فنسيهم ( التوبة : 67 ) وهو مجاز حسن ، وأما الاستهزاء الذين نحن بصدده فهو استهزاء حقيقة لا يرضى به إلا جاهل .
ثم قال سبحانه :
فحاق بالذين سخروا منهم ( الأنعام : 10 ) أي : حاق بهم من الله الوعيد البالغ لهم على ألسنة الرسل ما كانوا به يستهزئون بألسنتهم ، فنزلت كل كلمة منزلتها .
وقوله تعالى :
ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام ( البقرة : 149 ) ولم يذكر
الكعبة ؛ لأن البعيد يكفيه مراعاة الجهة ، فإن استقبال عينها حرج عليه بخلاف القريب ، ولما خص الرسول بالخطاب تعظيما وإيجابا لشرعته عمم تصريحا بعموم الحكم وتأكيدا لأمر القبلة .