( تنبيه )
يقرب من هذا
التهكم ، وهو إخراج الكلام على ضد مقتضى الحال ، كقوله تعالى : (
ذق إنك أنت العزيز الكريم ) ( الدخان : 49 ) .
وجعل بعضهم منه قوله تعالى : (
له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله ) ( الرعد : 11 ) مع العلم بأنه لا يحفظ من أمر الله شيء .
التأدب في الخطاب بإضافة الخير إلى الله .
وإن كان الكل بيده كقوله تعالى : (
أنعمت عليهم ) ( الفاتحة : 7 ) ثم قال : (
غير المغضوب عليهم ) ( الفاتحة : 7 ) ولم يقل : غير الذين غضبت عليهم .
وقوله : (
بيدك الخير ) ( آل عمران : 26 ) ولم يقل : وبيدك الشر ،
[ ص: 53 ] وإن كانا جميعا بيده لكن الخير يضاف إلى الله تعالى إرادة محبة ورضا ، والشر لا يضاف إليه إلا إلى مفعولاته ، لأنه لا يضاف إلى صفاته ولا أفعاله بل كلها كما لا نقص فيه . وهذا معنى قوله :
nindex.php?page=hadith&LINKID=1018689والشر ليس إليك وهو أولى من تفسير من فسره لا يتقرب به إليك .
وتأمل قوله (
فصرف عنه كيدهن ) ( يوسف : 34 ) فأضافه إلى نفسه حيث صرفه ، ولما ذكر السجن أضافه إليهم ، فقال : (
ليسجننه حتى حين ) ( يوسف : 35 ) وإن كان سبحانه هو الذي سبب السجن له ، وأضاف ما منه الرحمة إليه ، وما منه الشدة إليهم .
ومنه قوله تعالى حكاية عن
إبراهيم عليه السلام : وإذا (
مرضت فهو يشفين ) ( الشعراء : 80 ) ولم يقل : أمرضني .
وتأمل جواب
الخضر عليه السلام عما فعله حيث قال في إعابة السفينة : (
فأردت ) ( الكهف : 79 ) وقال في الغلام : (
فأردنا ) ( الكهف : 81 ) وفي إقامة الجدار (
فأراد ربك ) ( الكهف : 82 ) .
قال الشيخ
صفي الدين بن أبي المنصور في كتاب " فك الأزرار عن عنق الأسرار " لما أراد ذكر العيب للسفينة نسبه لنفسه أدبا مع الربوبية ، فقال : " فأردت " . ولما كان قتل الغلام مشترك الحكم بين المحمود ، والمذموم ، استتبع نفسه مع الحق ، فقال في الإخبار بنون الاستتباع ، ليكون المحمود من الفعل وهو راحة أبويه المؤمنين من كفره ، عائدا على
[ ص: 54 ] الحق سبحانه ، والمذموم ظاهرا - وهو قتل الغلام بغير حق - عائدا عليه . وفي إقامة الجدار كان خيرا محضا ، فنسبه للحق ، فقال : (
فأراد ربك ) ثم بين أن الجميع من حيث العلم التوحيدي من الحق بقوله : (
وما فعلته عن أمري ) ( الكهف : 82 ) .
وقال
ابن عطية : إنما أفرد أولا في الإرادة لأنها لفظ غيب ، وتأدب بأن لم يسند الإرادة فيها إلا إلى نفسه كما تأدب
إبراهيم عليه السلام في قوله : (
وإذا مرضت فهو يشفين ) ( الشعراء : 80 ) فأسند الفعل قبل وبعد إلى الله ، وأسند المرض إلى نفسه ، إذ هو معنى نقص ومعابة ، وليس من جنس النعم المتقدمة .
وهذا النوع مطرد في فصاحة القرآن كثيرا ، ألا ترى إلى تقديم فعل البشر في قوله تعالى : (
فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم ) ( الصف : 5 ) وتقديم فعل الله في قوله تعالى : (
ثم تاب عليهم ليتوبوا ) ( التوبة : 18 ) وإنما قال
الخضر في الثانية : ( فأردنا ) لأنه قد أراده الله وأصحابه الصالحون ، وتكلم فيه في معنى الخشية على الوالدين ، وتمنى التبديل لهما ، وإنما أسند الإرادة في الثالثة إلى الله تعالى لأنها أمر مستأنف في الزمن الطويل غيب من الغيوب ، فحسن إفراد هذا الموضع بذكر الله تعالى .
ومثله قول مؤمني الجن : (
وأنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشدا ) ( الجن : 10 ) فحذف الفاعل في إرادة الشر تأدبا مع الله ، وأضافوا إرادة الرشد إليه .
وقريب من هذا قوله تعالى حاكيا عن
يوسف عليه السلام ، في خطابه لما اجتمع أبوه وإخوته : (
إذ أخرجني من السجن ) ( يوسف : 100 ) ولم يقل : من الجب مع أن الخروج منه أعظم من الخروج من السجن .
وإنما آثر ذكر السجن لوجهين ذكرهما
ابن عطية :
أحدهما : أن في ذكر الجب تجديد فعل إخوته ، وتقريعهم بذلك ، وتقليع نفوسهم ، وتجديد تلك الغوائل ، وتخييب النفوس . والثاني : أنه خرج من الجب إلى الرق ومن السجن إلى الملك ، والنعمة هنا أوضح انتهى .
[ ص: 55 ] وأيضا ولأن بين الحالين بونا من ثلاثة أوجه : قصر المدة في الجب وطولها في السجن ، وأن الجب كان في حال صغره ، ولا يعقل فيها المصيبة ، ولا تؤثر في النفس كتأثيرها في حال الكبر ، والثالث أن أمر الجب كان بغيا وظلما لأجل الحسد ، وأمر السجن كان لعقوبة أمر ديني هو منزه عنه ، وكان أمكن في نفسه ، والله أعلم بمراده .
ومثله قوله تعالى : (
أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم ) ( البقرة : 187 ) وقال : (
وأحل لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم ) ( النساء : 24 ) فحذف الفاعل عند ذكر الرفث وهو الجماع ، وصرح به عند إحلال العقد .
وقال تعالى : (
حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به ) ( المائدة : 3 ) فحذف الفاعل عند ذكر هذه الأمور . وقال : (
قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا ) ( الأنعام : 151 ) .
وقال : (
وأحل الله البيع وحرم الربا ) ( البقرة : 275 ) ونظائر ذلك كثيرة في القرآن .
وقال
السهيلي : في كتاب " الإعلام " في قوله تعالى حكاية عن
موسى عليه السلام : (
وناديناه من جانب الطور الأيمن ) ( مريم : 52 ) وقال للنبي صلى الله عليه وسلم : (
وما كنت بجانب الغربي إذ قضينا إلى موسى الأمر ) ( القصص : 44 ) والمكان المشار إليه واحد قال : ووجه الفرق بين الخطابين أن الأيمن إما مشتق من اليمن ، وهو البركة أو مشارك له في المادة ، فلما حكاه عن
موسى في سياق الإثبات أتى بلفظه ، ولما خاطب
محمدا صلى الله عليه وسلم في سياق النفي عدل إلى لفظ الغربي لئلا يخاطبه ، فيسلب عنه فيه لفظا مشتقا من اليمن ، أو مشاركا في المادة رفقا بهم في الخطاب ، وإكراما لهما . هذا حاصل ما ذكره بمعناه موضحا .
وهو أصل عظيم في الأدب في الخطاب .
[ ص: 56 ] وقال أيضا في الكتاب المذكور في قوله تعالى : (
وذا النون إذ ذهب مغاضبا ) ( الأنبياء : 87 ) الآية ، أضافه هنا إلى النون وهو الحوت ، وقال في سورة القلم : (
ولا تكن كصاحب الحوت ) ( القلم : 42 ) وسماه هنا ذا النون ، والمعنى واحد ، ولكن بين اللفظين تفاوت كبير في حسن الإشارة إلى الحالين ، وتنزيل الكلام في الموضعين ، فإنه حين ذكره في موضع الثناء عليه قال : ( ذا النون ) ولم يقل : " صاحب الحوت " . والإضافة بـ ( ذو ) أشرف من الإضافة " بصاحب " ، ثم أضافه إلى النون ، وهو الحوت ، ولفظ النون أشرف لوجود هذا الاسم في حروف الهجاء في أوائل السور ، نحو : ( ن والقلم ) ، وليس في اللفظ الآخر ما يشرفه . فالتفت إلى تنزيل الكلام في الآيتين يلح لك ما أشرت إليه في هذا ، فإن التدبر لإعجاز القرآن واجب مفترض .
وقال الشيخ
أبو محمد المرجاني في قوله تعالى : (
سننظر أصدقت أم كنت من الكاذبين ) ( النمل : 27 ) خاطبه بمقدمة الصدق مواجهة ، ولم يقدم الكذب ، لأنه متى أمكن حمل الخبر على الصدق لا يعدل عنه ، ومتى كان يحتمل ويحتمل ، قدم الصدق ، ثم لم يواجهه بالكذب ، بل أدمجه في جملة الكذابين أدبا في الخطاب .
قلت : ومثله (
إن كان قميصه قد من قبل فصدقت وهو من الكاذبين وإن كان قميصه قد من دبر فكذبت وهو من الصادقين ) ( يوسف : 26 - 27 ) . وكذا قوله تعالى عن مؤمن آل فرعون : (
وإن يك كاذبا فعليه كذبه وإن يك صادقا يصبكم بعض الذي يعدكم ) ( غافر : 28 ) . وهذان المثالان من باب إرخاء العنان للخصم ليدخل في المقصود بألطف موعود