الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
صفحة جزء
( فائدة )

نقل عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : ما كان قوم أقل سؤالا من أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، سألوه عن أربعة عشر حرفا فأجيبوا .

قال الإمام : ثمانية منها في البقرة ( وإذا سألك عبادي عني فإني قريب ) ( البقرة : 186 ) ( يسألونك عن الأهلة ) ( البقرة : 189 ) والباقي ستة فيها ، والتاسعة : ( يسألونك ماذا أحل لهم ) ( الآية : 4 ) في المائدة .

والعاشرة ( يسألونك عن الأنفال ) ( الأنفال : 1 ) . الحادي عشر في بني إسرائيل ( ويسألونك عن الروح ) ( الإسراء : 85 ) . الثاني عشر في الكهف : ( ويسألونك عن ذي القرنين ) ( الآية : 83 ) . الثالث عشر في طه : ( ويسألونك عن الجبال ) ( الآية : 105 ) . الرابع عشر في النازعات : ( يسألونك عن الساعة ) ( الآية : 42 ) .

ولهذه المسألة ترتيب : اثنان منها في شرح المبدأ ، كقوله تعالى : ( وإذا سألك عبادي عني ) ( البقرة : 186 ) فإنه سؤال عن الذات ، وقوله : ( يسألونك عن الأهلة ) ( البقرة : 189 ) سؤال عن الصفة

[ ص: 49 ] واثنان في الآخر في شرح المعاد ، وقوله : ( ويسألونك عن الجبال ) ( طه : 105 ) وقوله : ( يسألونك عن الساعة أيان مرساها ) ( الأعراف : 187 ) .

ونظير هذا أنه ورد في القرآن سورتان أولهما ( يا أيها الناس ) ( الحج : 1 ) في النصف الأول ، وهو السورة الرابعة ، وهي سورة النساء ، والثانية في النصف الثاني ، وهي سورة الحج ، ثم ( يا أيها الناس ) الذي في الأول يشتمل على شرح المبدأ ، والذي في الثاني يشتمل على شرح المعاد .

فإن قيل : كيف جاء ( يسألونك ) ثلاث مرات بغير واو : ( يسألونك عن الأهلة ) ( البقرة : 189 ) ( يسألونك عن الشهر الحرام ) ( البقرة : 217 ) ( يسألونك عن الخمر والميسر ) ( البقرة : 219 ) ثم جاء ثلاث مرات بالواو : ( ويسألونك ماذا ينفقون ) ( البقرة : 219 ) ( ويسألونك عن اليتامى ) ( البقرة : 220 ) ( ويسألونك عن المحيض ) ( البقرة : 222 ) .

قلنا : لأن سؤالهم عن الحوادث ؛ الأول وقع متفرقا عن الحوادث ، والآخر وقع في وقت واحد فجيء بحرف الجمع دلالة على ذلك .

فإن قيل : كيف جاء : ( وإذا سألك عبادي عني فإني قريب ) ( البقرة : 186 ) وعادة السؤال يجيء جوابه في القرآن بـ " قل " نحو : ( يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج ) ( البقرة : 189 ) ونظائره .

قيل : حذفت للإشارة إلى أن العبد في حالة الدعاء مستغن عن الواسطة ، وهو دليل على أنه أشرف المقامات ، فإن الله سبحانه لم يجعل بينه وبين الداعي واسطة ، وفي غير حالة الدعاء تجيء الواسطة .

الخطاب بالشيء عن اعتقاد المخاطب دون ما في نفس الأمر .

كقوله سبحانه وتعالى : ( أين شركاؤكم الذين كنتم تزعمون ) ( الأنعام : 22 ) وقعت إضافة الشريك إلى الله سبحانه على ما كانوا يقولون ، لأن القديم سبحانه أثبته .

[ ص: 50 ] وقوله : ( ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا ) ( البقرة : 165 ) . وقوله : ( ذق إنك أنت العزيز الكريم ) ( الدخان : 49 ) . وقوله : ( إنك لأنت الحليم الرشيد ) ( هود : 87 ) أي بزعمك واعتقادك . وقوله : ( ياأيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون ) ( الحجر : 6 ) . وقوله : ( وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون ) ( الصافات : 147 ) . وقوله : ( فهي كالحجارة أو أشد قسوة ) ( البقرة : 74 ) .

وقوله : ( وما أمر الساعة إلا كلمح البصر أو هو أقرب ) ( النحل : 77 ) أي أنكم لو علمتم قساوة قلوبكم لقلتم إنها كالحجارة أو إنها فوقها في القسوة ، ولو علمتم سرعة الساعة ، لعلمتم أنه في سرعة الوقوع كلمح البصر أو هو أقرب عندكم . وأرسلناه إلى قوم هم من الكثرة بحيث لو رأيتموهم لشككتم ، وقلتم : مائة ألف أو يزيدون عليها .

وجعل منه بعضهم قوله تعالى : ( قال رب إن قومي كذبون ) ( الشعراء : 177 ) ، نحوه مما كان عند المتكلم لأنه لا يكون خلافه ، فإنه كان على طمع ألا يكون منهم تكذيب .

وقوله تعالى : ( وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه ) ( الروم : 27 ) أي بالنسبة إلى ما يعتاده المخلوقون في أن الإعادة عندهم أهون من البداءة لأنه أهون بالنسبة إليه سبحانه ، فيكون البعث أهون عليه عندكم من الإنشاء .

وحكى الإمام الرازي في مناقب الشافعي قال : معنى الآية في العبرة عندكم ، لأنه لما قال للعدم : كن فخرج تاما كاملا بعينيه ، وأذنيه ، وسمعه ، وبصره ، ومفاصله ، فهذا في العبرة أشد من أن يقول لشيء قد كان : عد إلى ما كنت عليه ، فالمراد من الآية : وهو أهون عليه بحسب عبرتكم لا أن شيئا يكون على الله أهون من شيء آخر .

وقيل : الضمير في " عليه " يعود للخلق ; لأنه يصاح بهم صيحة فيقومون ، وهو أهون من أن يكونوا نطفا ، ثم علقا ، ثم مضغا ، إلى أن يصيروا رجالا ، ونساء .

[ ص: 51 ] وقوله : ( ياأيها الساحر ) ( الزخرف : 49 ) أي : يا أيها العالم الكامل ، وإنما قالوا هذه تعظيما وتوقيرا منهم له ، لأن السحر عندهم كان عظيما وصنعة ممدوحة .

وقيل : معناه : يا أيها الذي غلبنا بسحره ، كقول العرب : خاصمته فخصمته أي : غلبته بالخصومة ، ويحتمل أنهم أرادوا تعييب موسى عليه السلام بالسحر ، ولم ينافسهم في مخاطبتهم به رجاء أن يؤمنوا .

وقوله تعالى : ( فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا ) ( البقرة : 24 ) جيء بإن التي للشك وهو واجب دون إذ التي للوجوب سوقا للكلام على حسب حسبانهم أن معارضته فيها للتهكم كما يقوله الواثق بغلبته على من يعاديه ، إن غلبتك ، وهو يعلم أنه غالبه تهكما به .

وقوله تعالى : ( أفمن يخلق كمن لا يخلق ) ( النحل : 17 ) والمراد بـ " من لا يخلق " الأصنام ، وكان أصله كما لا يخلق ، لأن ما لمن لا يعقل بخلاف من ، لكن خاطبهم على معتقدهم لأنهم سموها آلهة ، وعبدوها فأجروها مجرى أولي العلم ، كقوله للأصنام : ( ألهم أرجل يمشون بها أم لهم أيد ) ( الأعراف : 195 ) الآية ، أجرى عليهم ضمير أولي العقل كذا قيل .

ويرد عليه أنه إذا كان معتقدهم خطأ وضلالة ، فالحكم يقتضي أن ينزعوا عنه ويقلعوا لا أن يبقوا عليه ، إلا أن يقال : الغرض من الخطاب الإيهام ، ولو خاطبهم على خلاف معتقدهم فقال : كما لا يخلق ، لاعتقدوا أن المراد به غير الأصنام من الجماد .

وكذا ما ورد من الخطاب بعسى ، ولعل ، فإنها على بابها في الترجي ، والتوقع ، ولكنه راجع إلى المخاطبين ، قال الخليل وسيبويه في قوله تعالى : ( فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى ) ( طه : 44 ) اذهبا إلى رجائكما وطمعكما ، لعله يتذكر عندكما ، فأما الله تعالى [ ص: 52 ] فهو عالم بعاقبة أمره ، وما يئول إليه ; لأنه يعلم الشيء قبل أن يكون ، وهذا أحسن من قول الفراء : إنها تعليلة أي : كي يتذكر ، لما فيه من إخراج اللفظ عن موضوعه .

ومنه التعجب الواقع في كلام الله ، نحو : ( فما أصبرهم على النار ) ( البقرة : 175 ) أي هم أهل أن يتعجب منهم ، ومن طول مكثهم في النار

ونحوه : ( قتل الإنسان ما أكفره ) ( عبس : 17 ) و ( أبصر به وأسمع ) ( الكهف : 26 ) .

ومنه قوله تعالى في نعيم أهل الجنة وشقاء أهل النار : ( خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض ) ( هود : 107 ) مع أنهما لا يزولان لكن التقييد بالسماء والأرض ، جرت عادة العرب إذا قصدوا الدوام أن يعلقوا بهما فجاء الخطاب على ذلك

التالي السابق


الخدمات العلمية