النوع الرابع :
التكرير ، وهو أبلغ من التأكيد ، وهو من محاسن الفصاحة خلافا لبعض من غلط .
وله
فوائد .
منها : التقرير : وقد قيل الكلام إذا تكرر تقرر ، وقد نبه تعالى على السبب الذي لأجله كرر الأقاصيص والإنذار في القرآن بقوله :
وصرفنا فيه من الوعيد لعلهم يتقون أو يحدث لهم ذكرا [ طه : 113 ] .
ومنها : التأكيد .
ومنها : زيادة التنبيه على ما ينفي التهمة ليكمل تلقي الكلام بالقبول ، ومنه :
وقال الذي آمن ياقوم اتبعون أهدكم سبيل الرشاد ياقوم إنما هذه الحياة الدنيا متاع [ غافر : 38 ، 39 ] ، فإنه كرر فيه النداء لذلك .
ومنها : إذا طال الكلام ، وخشي تناسي الأول ، أعيد ثانيها تطرية له وتجديدا لعهده ، ومنه :
ثم إن ربك للذين عملوا السوء بجهالة ثم تابوا من بعد ذلك وأصلحوا إن ربك من بعدها [ النحل : 119 ] ،
ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا ثم جاهدوا وصبروا إن ربك من بعدها [ النحل : 110 ] ،
ولما جاءهم كتاب من عند الله إلى قوله :
فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به [ البقرة : 89 ] ،
لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب [ آل عمران : 188 ] ،
إني رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر رأيتهم [ يوسف : 4 ] .
ومنها : التعظيم والتهويل ، نحو :
الحاقة ما الحاقة [ الحاقة : 1 ، 2 ] ،
القارعة ما القارعة [ القارعة : 1 ، 2 ] ،
وأصحاب اليمين ما أصحاب اليمين [ الواقعة : 28 ] .
[ ص: 108 ] فإن قلت : هذا النوع أحد أقسام النوع الذي قبله ، فإن منها التأكيد بتكرار اللفظ ، فلا يحسن عده نوعا مستقلا .
قلت : هو يجامعه ويفارقه ، ويزيد عليه وينقص عنه ، فصار أصلا برأسه ، فإنه قد يكون التأكيد تكرارا كما تقدم في أمثلته ، وقد لا يكون تكرارا كما تقدم أيضا ، وقد يكون التكرير غير تأكيد صناعة ، وإن كان مفيدا للتأكيد معنى .
ومنه ما وقع فيه الفصل بين المكررين ، فإن التأكيد لا يفصل بينه وبين مؤكده ، نحو :
اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد واتقوا الله [ الحشر : 18 ] ،
إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين [ آل عمران : 42 ] ، فالآيتان من باب التكرير لا التأكيد اللفظي الصناعي .
ومنه : الآيات المتقدمة في التكرير للطول . ومنه : ما كان لتعدد المتعلق بأن يكون المكرر ثانيا متعلقا بغير ما تعلق به الأول ، وهذا القسم يسمى بالترديد ؛ كقوله :
الله نور السماوات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب دري [ النور : 35 ] ، وقع فيها الترديد أربع مرات .
وجعل منه قوله :
فبأي آلاء ربكما تكذبان [ الرحمن : 13 ، 16 ] ، فإنها وإن تكررت نيفا وثلاثين مرة فكل واحدة تتعلق بما قبلها ؛ ولذلك زادت على ثلاثة ، ولو كان الجميع عائدا إلى شيء واحد لما زاد على ثلاثة ؛ لأن التأكيد لا يزيد عليها . قال
ابن عبد السلام وغيره : وإن كان بعضها ليس بنعمة ، فذكر النقمة للتحذير نعمة .
وقد سئل : أي نعمة في قوله :
كل من عليها فان [ الرحمن : 26 ] ؟ فأجيب بأجوبة أحسنها : النقل من دار الهموم إلى دار السرور ، وإراحة المؤمن والبار من الفاجر .
وكذا قوله :
ويل يومئذ للمكذبين في سورة المرسلات ؛ لأنه تعالى ذكر قصصا مختلفة ، وأتبع كل قصة بهذا القول ، فكأنه قال عقب كل قصة : ويل يومئذ للمكذب بهذه القصة .
وكذا قوله في سورة الشعراء [ الآية : 8 ]
إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين وإن ربك لهو العزيز الرحيم [ ص: 109 ] كررت ثماني مرات ، كل مرة عقب كل قصة ، فالإشارة في كل واحدة بذلك إلى قصة النبي المذكور قبلها ، وما اشتملت عليه من الآيات والعبر ، وبقوله :
وما كان أكثرهم مؤمنين إلى قومه خاصة ، ولما كان مفهومه أن الأقل من قومه آمنوا أتى بوصف العزيز الرحيم للإشارة إلى أن العزة على من لم يؤمن والرحمة لمن آمن .
وكذا قوله في سورة القمر [ الآية : 17 ]
ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر . قال
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزمخشري : كرر ليجدوا عند سماع كل نبإ منها اتعاظا وتنبيها ، وأن كلا من تلك الأنباء مستحق لاعتبار يختص به ، وأن يتنبهوا كيلا يغلبهم السرور والغفلة .
قال في عروس الأفراح : فإن قلت : إذا كان المراد بكل ما قبله فليس ذلك بإطناب ، بل هي ألفاظ ؛ كل أريد به غير ما أريد بالآخر .
قلت : إذا قلنا : العبرة بعموم اللفظ ، فكل واحد أريد به ما أريد بالآخر ، ولكن كرر ليكون نصا فيما يليه وظاهرا في غيره .
فإن قلت : يلزم التأكيد .
قلت : والأمر كذلك ، ولا يرد عليه أن التأكيد لا يزاد به عن ثلاثة ؛ لأن ذاك في التأكيد الذي هو تابع ، أما ذكر الشيء في مقامات متعددة أكثر من ثلاثة فلا يمتنع . انتهى . ويقرب من ذلك ما ذكره
nindex.php?page=showalam&ids=16935ابن جرير في قوله تعالى :
ولله ما في السماوات وما في الأرض ولقد وصينا إلى قوله :
وكان الله غنيا حميدا ولله ما في السماوات وما في الأرض وكفى بالله وكيلا [ النساء : 131 ، 132 ] ، قال : فإن قيل : ما وجه تكرار قوله :
ولله ما في السماوات وما في الأرض في آيتين إحداهما في أثر الأخرى ؟ قلنا : لاختلاف معنى الخبرين عما في السماوات والأرض ؛ وذلك لأن الخبر عنه في إحدى الآيتين ذكر حاجته إلى بارئه وغنى بارئه عنه ، وفي الأخرى حفظ بارئه إياه وعلمه به وبتدبيره . قال : فإن قيل : أفلا قيل : (
وكان الله غنيا حميدا وكفى بالله وكيلا ) ، قيل : ليس في الآية الأولى ما يصلح أن تختتم بوصفه معه بالحفظ والتدبير . انتهى .
وقال تعالى :
وإن منهم لفريقا يلوون ألسنتهم بالكتاب لتحسبوه من الكتاب وما هو من الكتاب [ آل عمران : 78 ] ،
[ ص: 110 ] قال
الراغب : الكتاب الأول ما كتبوه بأيديهم المذكورة في قوله تعالى :
فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم [ البقرة : 79 ] ، والكتاب الثاني التوراة ، والثالث لجنس كتب الله كلها ؛ أي : ما هو من شيء من كتب الله وكلامه .
ومن أمثلة ما يظن تكرارا وليس منه :
قل ياأيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون [ الكافرون : 1 ، 2 ] ، إلى آخرها ، فإن : لا أعبد ما تعبدون أي : في المستقبل ، ولا أنتم عابدون ؛ أي : في الحال ، ما أعبد في المستقبل ، ولا أنا عابد ؛ أي : في الحال ، ما عبدتم في الماضي ، ولا أنتم عابدون ؛ أي : في المستقبل ، ما أعبد ؛ أي : في الحال . فالحاصل أن القصد نفي عبادته لآلهتهم في الأزمنة الثلاثة .
وكذا :
فاذكروا الله عند المشعر الحرام واذكروه كما هداكم [ البقرة : 198 ] ، ثم قال :
فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم آباءكم [ البقرة : 200 ] ، ثم قال :
واذكروا الله في أيام معدودات [ البقرة : 203 ] ، فإن المراد بكل واحد من هذه الأذكار غير المراد بالآخر .
فالأول : الذكر في مزدلفة عند الوقوف بقزح ، وقوله :
واذكروه كما هداكم إشارة إلى تكرره ثانيا وثالثا ، ويحتمل أن يراد به طواف الإفاضة بدليل تعقيبه بقوله : ( فإذا قضيتم ) ، والذكر الثالث : إشارة إلى رمي جمرة العقبة ، والذكر الأخير : لرمي أيام التشريق .
ومنه :
تكرير حرف الإضراب في قوله :
بل قالوا أضغاث أحلام بل افتراه بل هو شاعر [ الأنبياء : 5 ] ، وقوله :
بل ادارك علمهم في الآخرة بل هم في شك منها بل هم منها عمون [ النمل : 66 ] .
ومنه : قوله
ومتعوهن على الموسع قدره وعلى المقتر قدره متاعا بالمعروف حقا على المحسنين [ البقرة : 236 ] ، ثم قال :
وللمطلقات متاع بالمعروف حقا على المتقين [ البقرة : 241 ] ، فكرر الثاني ليعم كل مطلقة ، فإن الآية الأولى في المطلقة قبل الفرض والمسيس خاصة .
وقيل : لأن الأولى لا تشعر بالوجوب ، ولهذا لما نزلت قال بعض الصحابة : إن شئت أحسنت وإن شئت فلا ، فنزلت الثانية . أخرجه
nindex.php?page=showalam&ids=16935ابن جرير .
[ ص: 111 ] ومن ذلك
تكرير الأمثال كقوله :
وما يستوي الأعمى والبصير ولا الظلمات ولا النور ولا الظل ولا الحرور وما يستوي الأحياء ولا الأموات [ فاطر : 19 - 23 ] .
وكذلك ضرب مثل المنافقين أول البقرة بالمستوقد نارا ، ثم ضربه بأصحاب الصيب . قال
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزمخشري : والثاني أبلغ من الأول لأنه أدل على فرط الحيرة وشدة الأمر وفظاعته .
قال : ولذلك آخرهم يتدرجون في نحو هذا من الأهون إلى الأغلظ .
ومن ذلك
تكرير القصص كقصة
آدم وموسى ونوح وغيرهم من الأنبياء . قال بعضهم : ذكر الله
موسى في مائة وعشرين موضعا من كتابه .
وقال
ابن العربي في القواصم : ذكر الله قصة
نوح في خمس وعشرين آية ، وقصة
موسى في تسعين آية .
وقد ألف
البدر بن جماعة كتابا سماه " المقتنص في
فوائد تكرار القصص " ، وذكر في تكرير القصص فوائد .
منها : أن في كل موضع زيادة شيء لم يذكر في الذي قبله أو إبدال كلمة بأخرى لنكتة ، وهذه عادة البلغاء .
ومنها : أن الرجل كان يسمع القصة من القرآن ، ثم يعود إلى أهله ، ثم يهاجر بعده آخرون يحكون ما نزل بعد صدور من تقدمهم ، فلولا تكرار القصص لوقعت قصة
موسى إلى قوم ، وقصة
عيسى إلى آخرين ، وكذا سائر القصص ، فأراد الله اشتراك الجميع فيها ، فيكون فيه إفادة لقوم وزيادة تأكيد لآخرين .
ومنها : أن في إبراز الكلام الواحد في فنون كثيرة وأساليب مختلفة ما لا يخفى من الفصاحة .
ومنها : أن الدواعي لا تتوفر على نقلها كتوفرها على نقل الأحكام ; فلهذا كررت القصص دون الأحكام . ومنها : أنه تعالى أنزل هذا القرآن ، وعجز القوم عن الإتيان بمثله ، بأي نظم جاءوا ،
[ ص: 112 ] ثم أوضح الأمر في عجزهم بأن كرر ذكر القصة في مواضع إعلاما بأنهم عاجزون عن الإتيان بمثله ، بأي نظم جاءوا ، وبأي عبارة عبروا .
ومنها : أنه لما تحداهم قال :
فأتوا بسورة من مثله [ البقرة : 23 ] ، فلو ذكرت القصة في موضع واحد واكتفي بها ، لقال العربي : ائتونا أنتم بسورة من مثله ، فأنزلها الله سبحانه وتعالى في تعداد السور ، دفعا لحجتهم من كل وجه .
ومنها : أن القصة الواحدة لما كررت كان في ألفاظها في كل موضع زيادة ونقصان وتقديم وتأخير ، وأتت على أسلوب غير أسلوب الأخرى ، فأفاد ذلك ظهور الأمر العجيب في إخراج المعنى الواحد في صور متباينة في النظر وجذب النفوس إلى سماعها ، لما جبلت عليه من حب التنقل في الأشياء المتجددة واستلذاذها بها ، وإظهار خاصة القرآن ؛ حيث لم يحصل مع تكرير ذلك فيه هجنة في اللفظ ، ولا ملل عند سماعه ، فباين ذلك كلام المخلوقين .