الثامن : قال
البارزي في أول كتابه أنوار التحصيل في أسرار التنزيل : اعلم أن المعنى الواحد قد يخبر عنه بألفاظ بعضها أحسن من بعض ، وكذلك كل واحد من جزأي الجملة قد يعبر عنه بأفصح ما يلائم الجزء الآخر ، ولا بد من استحضار معاني الجمل أو استحضار جميع ما يلائمها من الألفاظ ، ثم استعمال أنسبها وأفصحها واستحضار هذا متعذر على البشر في أكثر الأحوال ، وذلك عتيد حاصل في علم الله تعالى ، فلذلك كان
القرآن أحسن الحديث وأفصحه وإن كان مشتملا على الفصيح والأفصح ، والمليح والأملح ، ولذلك أمثلة :
منها قوله تعالى :
وجنى الجنتين دان [ الرحمن : 54 ] . لو قال مكانه : ( وثمر الجنتين قريب ) لم يقم مقامه من جهة الجناس بين الجنى والجنتين ، ومن جهة أن الثمر لا يشعر بمصيره إلى حال يجنى فيها ، ومن جهة مؤاخاة الفواصل .
ومنها قوله تعالى :
وما كنت تتلو من قبله من كتاب [ العنكبوت : 48 ] . أحسن من التعبير ب ( تقرأ ) لثقله بالهمزة .
ومنها
لا ريب فيه [ البقرة : 2 ] . أحسن من ( لا شك فيه ) ، لثقل الإدغام ، ولهذا كثر ذكر الريب . ومنها
ولا تهنوا [ آل عمران : 139 ] . أحسن من ( ولا تضعفوا ) لخفته ، و
وهن العظم مني [ مريم : 4 ] . أحسن من ضعف لأن الفتحة أخف من الضمة .
ومنها (
آمن ) [ البقرة : 62 ] . أخف من صدق ، ولذا كان ذكره أكثر من ذكر التصديق ، و
آثرك الله [ يوسف : 91 ] . أخف من فضلك ، و "
آتى " [ البقرة : 177 ] . أخف من أعطى ، و (
أنذر ) [ الأحقاف : 21 ] . أخف من خوف ، و
خير لكم [ البقرة : 184 ] . أخف من ( أفضل لكم ) ، والمصدر في نحو :
هذا خلق الله [ لقمان : 11 ] .
يؤمنون بالغيب [ البقرة : 3 ] . أخف من مخلوق والغائب ، و
تنكح [ البقرة : 230 ] . أخف من تتزوج ; لأن ( تفعل ) أخف من ( تتفعل ) ، ولهذا كان ذكر النكاح فيه أكثر .
ولأجل التخفيف والاختصار استعمل لفظ الرحمة والغضب والرضا والحب والمقت في أوصاف الله تعالى ، مع أنه لا يوصف بها حقيقة ، لأنه لو عبر عن ذلك بألفاظ الحقيقة
[ ص: 257 ] لطال الكلام ، كأن يقال : يعامله معاملة المحب والماقت ، فالمجاز في مثل هذا أفضل من الحقيقة لخفته واختصاره وابتنائه على التشبيه البليغ ، فإن قوله
فلما آسفونا انتقمنا منهم [ الزخرف : 55 ] . أحسن من فلما عاملونا معاملة الغضب ، أو فلما أتوا إلينا بما يأتيه المغضب انتهى .