[ ص: 285 ] فصل .
من الأنواع المصطلح عليها في علم الجدل :
السبر والتقسيم .
ومن أمثلته في القرآن قوله تعالى :
ثمانية أزواج من الضأن اثنين [ الأنعام : 143 ] . الآيتين فإن الكفار لما حرموا ذكور الأنعام تارة ، وإناثها أخرى رد تعالى ذلك عليهم بطريق السبر والتقسيم ، فقال : إن الخلق لله تعالى خلق من كل زوج مما ذكر ذكرا وأنثى ، فمم جاء تحريم ما ذكرتم أي : ما علته لا يخلو إما أن يكون من جهة الذكورة أو الأنوثة أو اشتمال الرحم الشامل لهما ، أو لا يدري له علة ، وهو التعبدي بأن أخذ ذلك عن الله تعالى والأخذ عن الله تعالى إما بوحي وإرسال رسول أو سماع كلامه ، ومشاهدة تلقي ذلك عنه وهو معنى قوله
أم كنتم شهداء إذ وصاكم الله بهذا [ الأنعام : 144 ] . فهذه وجوه التحريم لا تخرج عن واحد منها .
والأول يلزم عليه أن يكون جميع الذكور حراما .
والثاني يلزم عليه أن تكون جميع الإناث حراما .
والثالث يلزم عليه تحريم الصنفين معا ، فبطل ما فعلوه من تحريم بعض في حالة وبعض في حالة ، لأن العلة على ما ذكر تقتضي إطلاق التحريم والأخذ عن الله بلا واسطة باطل ولم يدعوه ، وبواسطة رسول كذلك ، لأنه لم يأت إليهم رسول قبل النبي صلى الله عليه وسلم ، وإذا بطل جميع ذلك ثبت المدعى ، وهو أن ما قالوه افتراء على الله وضلال .
ومنها :
القول بالموجب . قال
ابن أبي الإصبع : وحقيقته رد كلام الخصم من فحوى كلامه .
وقال غيره : هو قسمان .
أحدهما : أن تقع صفة في كلام الغير كناية عن شيء أثبت له حكم فيثبتها لغير ذلك الشيء ، كقوله تعالى :
يقولون لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل ولله العزة [ المنافقون : 8 ] . الآية ف الأعز وقعت في كلام المنافقين كناية عن فريقهم و الأذل عن فريق المؤمنين ، وأثبت المنافقون لفريقهم إخراج المؤمنين من
المدينة ، فأثبت الله في الرد عليهم صفة العزة لغير فريقهم ، وهو الله ورسوله والمؤمنون ، وكأنه قيل : صحيح ذلك ليخرجن الأعز منها الأذل ، لكن هم الأذل المخرج ، والله ورسوله الأعز المخرج .
[ ص: 286 ] والثاني : حمل لفظ وقع في كلام الغير على خلاف مراده مما يحتمله بذكر متعلقه ، ولم أر من أورد له مثالا من القرآن ، وقد ظفرت بآية منه وهي قوله تعالى : ومنهم الذين يؤذون النبي ويقولون هو أذن قل أذن خير لكم [ التوبة : 61 ] .
ومنها :
التسليم ، وهو أن يفرض المحال إما منفيا أو مشروطا بحرف الامتناع ، لكون المذكور ممتنع الوقوع لامتناع وقوع شرطه ، ثم يسلم وقوع ذلك تسليما جدليا ، ويدل على عدم فائدة ذلك على تقدير وقوعه ، كقوله تعالى :
ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض [ المؤمنون : 9 ] . المعنى : ليس مع الله من إله ، ولو سلم أن معه سبحانه وتعالى إلها لزم من ذلك التسليم ذهاب كل إله من الاثنين بما خلق ، وعلو بعضهم على بعض ، فلا يتم في العالم أمر ، ولا ينفذ حكم ولا تنتظم أحواله ، والواقع خلاف ذلك ، ففرض إلهين فصاعدا محال لما يلزم منه المحال .
ومنها :
الإسجال وهو الإتيان بألفاظ تسجل على المخاطب وقوع ما خوطب به نحو :
ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك [ آل عمران : 194 ] .
ربنا وأدخلهم جنات عدن التي وعدتهم [ غافر : 8 ] . فإن في ذلك إسجالا بالإيتاء والإدخال ، حيث وصفا بالوعد من الله الذي لا يخلف وعده .
ومنها :
الانتقال وهو أن ينتقل المستدل إلى استدلال غير الذي كان آخذا فيه ، لكون الخصم لم يفهم وجه الدلالة من الأول ، كما جاء في مناظرة الخليل الجبار لما قال له :
ربي الذي يحيي ويميت [ البقرة : 258 ] . فقال الجبار : أنا أحيي وأميت ثم دعا بمن وجب عليه القتل فأعتقه ، ومن لا يجب عليه فقتله ، فعلم الخليل أنه لم يفهم معنى الإحياء والإماتة ، أو علم ذلك وغالط بهذا الفعل ، فانتقل عليه السلام إلى استدلال لا يجد الجبار له وجها يتخلص به منه ، فقال :
فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب [ البقرة : 258 ] . فانقطع الجبار وبهت ولم يمكنه أن يقول أنا الآتي بها من المشرق لأن من هو أسن منه يكذبه .
ومنها :
المناقضة وهي تعليق أمر على مستحيل ، إشارة إلى استحالة وقوعه كقوله تعالى :
ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط [ الأعراف : 40 ] .
ومنها :
مجاراة الخصم ليعثر بأن يسلم بعض مقدماته ، حيث يراد تبكيته وإلزامه ، كقوله تعالى :
قالوا إن أنتم إلا بشر مثلنا تريدون أن تصدونا عما كان يعبد آباؤنا فأتونا بسلطان مبين قالت لهم رسلهم إن نحن إلا بشر مثلكم [ إبراهيم : 10 ، 11 ] . الآية
[ ص: 287 ] . فقولهم :
إن نحن إلا بشر مثلكم الآية . . فيه اعتراف الرسل بكونهم مقصورين على البشرية ، فكأنهم سلموا انتفاء الرسالة عنهم ، وليس مرادا بل هو من مجاراة الخصم ليعثر ، فكأنهم قالوا : ما ادعيتم من كوننا بشرا حق لا ننكره ولكن هذا لا ينافي أن يمن الله تعالى علينا بالرسالة .