474 476 - ( مالك ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة زوج النبي أن الحارث بن هشام ) المخزومي ، شقيق أبي جهل ، أسلم يوم الفتح ، وكان من فضلاء الصحابة واستشهد في فتوح الشام سنة خمس عشرة ، وقد تكتب الحارث بلا ألف تخفيفا
( سأل رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، ) قال الحافظ : هكذا رواه الرواة عن عروة فيحتمل أن عائشة حضرت ذلك ، وعلى هذا اعتمد أصحاب الأطراف فأخرجوه في مسند عائشة ، ويحتمل أن الحارث أخبرها بذلك بعد ، فيكون [ ص: 12 ] من مرسل الصحابة ، وهو محكوم بوصله عند الجمهور ، ويؤيد الثاني ما رواه أحمد والبغوي وغيرهما من طريق عامر بن صالح الزبيري ، عن هشام ، عن أبيه ، عن عائشة ، عن الحارث بن هشام قال : سألت . وعامر فيه ضعف لكن له متابع عند ابن منده والمشهور الأول
( كيف يأتيك الوحي ؟ ) أي صفة الوحي نفسه أو صفة حامله أو أعم من ذلك ، وعلى كل تقدير فإسناد الإتيان إلى الوحي مجاز عقلي ; لأن الإتيان حقيقة من وصف حامله ، ويسمى مجازا في الإسناد للملابسة التي بين الحامل والمحمول ، أو هو استعارة بالكناية ; شبه الوحي برجل وأضيف إلى المشبه الإتيان الذي هو من خواص المشبه به ، وفيه أن السؤال عن الكيفية لطلب الطمأنينة لا يقدح في اليقين ، وجواز السؤال عن أحوال الأنبياء من الوحي وغيره .
( فقال رسول الله ، صلى الله عليه وسلم : أحيانا ) جمع حين يطلق على كثير الوقت وقليله ، والمراد هنا مجرد الوقت فكأنه قال : " أوقاتا " ، ونصب ظرفا عامله ( يأتيني ) مؤخر عنه ، وفيه أن المسئول عنه إذا كان ذا أقسام يذكر المجيب في أول جوابه ما يقتضي التفصيل ، ( في مثل صلصلة ) بمهملتين مفتوحتين بينهما لام ساكنة ، أصله صوت وقوع الحديد بعضه على بعض ، ثم أطلق على صوت له طنين ، وقيل صوت متدارك لا يدرك في أول وهلة . ( الجرس ) بجيم ومهملة الجلجل الذي يعلق في رءوس الدواب ، واشتقاقه من الجرس بإسكان الراء وهو الحس ، قيل : الصلصلة صوت الملك بالوحي
قال الخطابي : يريد أنه صوت متدارك يسمعه ولا يثبته أول ما يسمعه حتى يفهمه بعد ، ولما كان الجرس لا تحصل صلصلته إلا متداركة وقع التشبيه به دون غيره من آلات ، وقيل : صوت حفيف أجنحة الملك ، والحكمة في تقدمه أن يقرع سمعه الوحي فلا يبقى فيه مكان لغيره . ( وهو أشده علي ) ; لأن الفهم من كلام مثل الصلصلة أشد من الفهم من كلام الرجل بالتخاطب المعهود ، وفائدة هذه الشدة ما يترتب على المشقة من زيادة الزلفى والدرجات ، وأفهم أن الوحي كله شديد وهذا أشده ; لأن العادة جرت بالمناسبة بين القائل والسامع ، وهي هنا إما باتصاف السامع بوصف القائل فغلبت الروحانية ، وهو النوع الأول وإما باتصاف القائل بوصف السامع ، وهو البشرية وهو النوع الثاني ، والأول أشد بلا شك ، وقال السراج البلقيني : سبب ذلك أن الكلام العظيم له مقدمات تؤذن بتعظيمه للاهتمام به كما جاء في حديث ابن عباس : وكان يعالج من التنزيل شدة .
وقيل : كان ينزل هكذا إذا نزلت آية وعيد ، قال الحافظ : وفيه نظر ، والظاهر أنه لا يختص بالقرآن كما في حديث يعلى بن أمية في قصة لابس الجبة المتضمخ بالطيب في الحج ، ففيه أنه رآه ، صلى الله عليه وسلم ، حالة نزول الوحي وأنه ليغط .
( فيفصم ) بفتح التحتية وسكون الفاء وكسر المهملة ، أي يقطع ( عني ) ويتجلى ما يغشاني ، ويروى بضم أوله من الرباعي ، وفي رواية [ ص: 13 ] بضم أوله وفتح الصاد على البناء للمجهول ، وأصل الفصم القطع ، ومنه قوله تعالى : ( لا انفصام لها ) ( سورة البقرة : الآية 256 ) ، وقيل : الفصم بالفاء القطع بلا إبانة ، وبالقاف القطع بإبانة ، فذكره يفصم بالفاء إشارة إلى أن الملك فارقه ليعود ، والجامع بينهما بقاء العلقة .
( وقد وعيت ) بفتح العين حفظت ( ما قال ) أي القول الذي جاء به ، وفيه إسناد الوحي إلى قول الملك ، ولا معارضة بينه وبين قوله تعالى حكاية عن الكفار : ( إن هذا إلا قول البشر ) ( سورة المدثر : الآية 25 ) ; لأنهم كانوا ينكرون الوحي وينكرون مجيء الملك به ، فإن قيل : المحمود لا يشبه بالمذموم إذ حقيقة التشبيه إلحاق ناقص بكامل ، والمشبه : الوحي ، والمشبه به : صوت الجرس ، وهو مذموم لصحة النهي عنه ، والتنفير من مرافقة ما هو معلق فيه ، والإعلام بأنهم لا تصحبهم الملائكة كما في مسلم وأبي داود وغيرهما ، فكيف شبه فعل الملك بأمر تنفر منه الملائكة ؟ أجيب بأنه لا يلزم في التشبيه تساوي المشبه بالمشبه به في الصفات كلها ، بل ولا في أخص وصف له ، بل يكفي اشتراكهما في صفة ما ، فالقصد هنا بيان الحس ، فذكر ما ألف السامعون سماعه تقريبا لأفهامهم .
( وأحيانا يتمثل ) يتصور ( لي ) أي لأجلي ، فاللام تعليلية ( الملك ) جبريل ، كما في رواية ابن سعد ، فأل عهدية ( رجلا ) نصب على المصدرية ، أي مثل رجل أو بهيئة رجل ، فهو حال ، وإن لم تئول بمشتق لدلالة رجل على الهيئة بلا تأويل أو على تمييز النسبة لا تمييز الفرد ; لأن الملك لا إبهام فيه ، وكون تمييز النسبة محولا عن الفاعل كتصبب زيد عرقا أو المفعول كفجرنا الأرض عيونا ، أمر غالب لا دائم بدليل امتلأ الإناء ماء ، أو على المفعولية بتضمين " يتمثل " معنى " يتخذ " أي الملك رجلا مثالا ، واستبعد من جهة المعنى لاتحاد المتخذ والمتخذ والإتيان بمثال بلا دليل
قال المتكلمون : الملائكة أجسام علوية لطيفة تتشكل أي شكل أرادوا . وزعم بعض الفلاسفة أنها جواهر [ ص: 14 ] روحانية . قال الحافظ : والحق أن تمثل الملك رجلا ليس معناه أن ذاته انقلبت رجلا ، بل معناه أنه ظهر بتلك الصورة تأنيسا لمن يخاطبه ، والظاهر أن القدر الزائد لا يزول ولا يفنى بل يخفى على الرائي فقط ، وتقدم مزيد لذلك في أول حديث ( فيكلمني ) بالكاف ، والبيهقي عن القعنبي : " فيعلمني " بالعين ، قال الحافظ : والظاهر أنه تصحيف فإنه في الموطأ رواية القعنبي بالكاف ، وكذا أخرجه الدارقطني من حديث مالك من طريق القعنبي وغيره .
( فأعي ما يقول ) زاد أبو عوانة : " nindex.php?page=hadith&LINKID=10352348وهو أهونه علي " ، وعبر هنا بالاستقبال وفيما قبله بالماضي ; لأن الوحي حصل في الأول قبل الفصم وفي الثاني حال المكالمة ، أو أنه في الأول تلبس بصفات الملكية ، فإذا عاد إلى جبلته كان حافظا لما قيل له فعبر بالماضي ، بخلاف الثاني فإنه على حالته المعهودة .
وأورد على مقتضى هذا الحديث من حصر الوحي في الحالتين حالات أخرى ، أما من صفة الوحي بمجيئه كدوي النحل والنفث في الروع والإلهام والرؤيا الصالحة والتكليم ليلة الإسراء بلا واسطة ، وأما في صفة حامل الوحي كمجيئه في صورته التي خلق عليها له ستمائة جناح ، ورؤيته على كرسي بين السماء والأرض وقد سد الأفق ، والجواب منع الحصر في الحالين ، وحملهما على الغالب أو حمل ما يغايرهما على أنه وقع بعد السؤال ، أو لم يتعرض لصفتي الملك المذكورتين لندورهما ، فقد ثبت عن عائشة أنه لم يره كذلك إلا مرتين ، أو لم يأته في تلك الحالة بوحي ، أو أتاه به وكان على مثل صلصلة الجرس ، فإنه بين بها صفة الوحي لا صفة حامله
وأما فنون الوحي فدوي النحل لا يعارض صلصلة الجرس ; لأن سماع الدوي بالنسبة إلى الحاضرين كما في حديث عمر يسمع عنده دوي كدوي النحل ، والصلصلة بالنسبة إليه ، صلى الله عليه وسلم ، فشبهه عمر بدوي النحل بالنسبة إلى السامعين ، وشبهه هو ، صلى الله عليه وسلم ، بصلصلة الجرس بالنسبة إلى مقامه .
وأما النفث في الروع فيحتمل أن يرجع إلى إحدى الحالتين ، فإذا أتاه في مثل الصلصلة نفث حينئذ في روعه ، وأما الإلهام فلم يقع السؤال عنه ; لأنه وقع عن صفة الوحي الذي يأتي بحامل ، وكذا التكليم ليلة الإسراء .
وأما الرؤيا الصالحة فقال ابن بطال : لا ترد لأن السؤال وقع عما ينفرد به عن الناس والرؤيا قد يشاركه فيها غيره ، انتهى .
والرؤيا الصادقة وإن كانت جزءا من النبوة فهي باعتبار صدقها ، وإلا لساغ أن يسمى صاحبها نبيا وليس كذلك ، ويحتمل أن السؤال وقع عما في اليقظة ، ولكون حال المنام لا يخفى على السائل اقتصر على ما يخفى عليه ، أو كان ظهور ذلك له ، صلى الله عليه وسلم ، في المنام أيضا على الوجهين المذكورين لا غير ، قاله الكرماني ، وفيه نظر
وقد ذكر الحليمي أن الوحي كان يأتيه على ستة وأربعين نوعا فذكرها ، وغالبها من صفات الوحي ، ومجموعها يدخل فيما ذكر ، انتهى .
( قالت عائشة ) بالإسناد السابق ، وإن كان بغير حرف عطف . وقد أخرجه الدارقطني من طريق عتيق بن [ ص: 15 ] يعقوب ، عن مالك ، عن هشام ، عن أبيه ، عنها ، مفصولا عن الحديث الأول . وكذا فصلهما مسلم من طريق أبي أسامة ، عن هشام ، ونكتته هنا اختلاف التحمل ; لأنها في الأول أخبرت عن مسألة الحارث ، وفي الثاني أخبرت عما شاهدته تأييدا للخبر الأول
( ولقد رأيته ) بواو القسم واللام للتأكيد ، أي والله لقد أبصرته ( ينزل ) بفتح أوله وكسر ثالثه ، وفي رواية : بضم أوله وفتح ثالثه ( عليه الوحي في اليوم الشديد البرد ) الشديد صفة جرت على غير من هي له ; لأنه صفة البرد لا اليوم ( فيفصم ) بفتح الياء وكسر الصاد أو بضمها وكسر الصاد ، من أفصم ، رباعي ، وهي لغة قليلة ، أو مبني للمجهول ، روايات كما مر ، أي يقلع ( عنه وإن جبينه ليتفصد ) بالياء ثم التاء وفاء وصاد مهملة ثقيلة ، من الفصد ، وهو قطع العرق لإسالة الدم ، شبه جبينه بالعرق المفصود مبالغة في الكثرة ، أي ليسيل ( عرقا ) تمييز ، زاد ابن أبي الزناد عن هشام بهذا الإسناد عند البيهقي : " وإن كان ليوحى إليه وهو على ناقته فتضرب جرانها من ثقل ما يوحى إليه " ، وفيه دلالة على كثرة معاناة التعب والكرب ثم نزول الوحي لمخالفة العادة ، وهو كثرة العرق في شدة البرد فيشعر بأمر طارئ زائد على الطباع البشرية .
وحكى العسكري في كتاب التصحيف عن بعض شيوخه بالقاف من التقصيد ، قال العسكري : فإن ثبت من قولهم تقصد الشيء إذا تكسر وتقطع ، ولا يخفى بعده ، انتهى .
وقد وقع في هذا التصحيف أبو الفضل بن طاهر فرده عليه المؤتمن الساجي بالفاء ، فأصر على القاف
وذكر الذهبي عن ابن ناصر أنه رد على ابن طاهر لما قرأها بالقاف ، قال : فكابرني ، قلت : ولعله وجهه بما قال العسكري
وأخرجه البخاري عن عبد الله بن يوسف عن مالك به ، وتابعه ابن عيينة وغيره عن هشام في الصحيحين