هو لغة : الإمساك مطلقا ، ومنه قوله - تعالى - إني نذرت للرحمن صوما أي إمساكا عن الكلام ، وشرعا : إمساك عن الجوع وعن إدخال شيء بطنا له حكم الباطن من الفجر إلى الغروب عن نية ، كذا عرفه ابن الهمام ، ثم قال : وهذا ثالث أركان الإسلام ، شرعه - سبحانه - لفوائد ، أعظمها كونه موجبا لشيئين : أحدهما ناشئ عن الآخر ؛ سكون النفس الأمارة وكسر شهوتها في الفضول المتعلقة بجميع الجوارح ، من العين واللسان والأذن والفرج ، فإن به تضعف حركتها في محسوساتها ، ولذا قيل : إذا جاعت النفس شبعت جميع الأعضاء وإذا شبعت جاعت كلها ، والناشئ عن هذا صفاء القلب عن الكدر ، فإن الموجب لكدورته فضول اللسان والعين ، وباقيهما ، وبصفائه تناط المصالح والدرجات ، ومنها كونه موجبا للرحمة والعطف على المساكين ، فإنه لما ذاق ألم الجوع في بعض الأوقات ذكر من هذا حاله في عموم الساعات ، فتسارع إليه الرقة عليه . والرحمة حقيقتها في حق الإنسان نوع ألم باطن فيسارع لدفعه عند الإحسان إليه فينال بذلك ما عند الله من حسن الجزاء ، ومنها موافقة الفقراء بتحمل ما يتحملون أحيانا ، وفي ذلك رفع حاله عند الله ، كما حكي عن nindex.php?page=showalam&ids=15531بشر الحافي أنه دخل عليه رجل في الشتاء فوجده جالسا يرعد وثوبه معلق على المشجب ، فقال له : في مثل هذا الوقت تنزع الثوب : أو معناه ، فقال : يا أخي ، الفقراء كثير وليس لي طاقة مواساتهم بالثياب فأواسيهم بتحمل البرد ، كما يتحملون اهـ ولهذا كان يقول بعض الأولياء العارفين عند كل أكلة : اللهم لا تؤاخذني بحق الجائعين ، وقد ثبت أن سيدنا يوسف - عليه السلام - ما كان يشبع من الطعام في سنة القحط مع كثرة المأكول عنده في ذلك العام ، لئلا ينسى أهل الجوع والفاقة ، وليتشبه بهم في الخاصة والحاجة .
ثم كانت فرضية صوم رمضان بعدما صرفت القبلة إلى الكعبة بشهر في شعبان على رأس ثمانية عشر شهرا من الهجرة ، كذا ذكره الشمني ، وقيل : لم يفرض قبله صوم ، وقيل : كان ثم نسخ ، فقيل : عاشوراء ، وقيل : الأيام البيض ، قال ابن حجر : وصح أنه لما فرض استنكروه ، وشق عليهم ، فخيروا بين الصوم وإطعام مسكين عن كل يوم كما في أول الآية ، ثم نسخ بما في آخرها فمن شهد منكم الشهر فليصمه ولما فرض كان يباح بعد الغروب تعاطي المفطر ما لم يحصل نوم أو يدخل وقت العشاء ، وإلا حرم ثم نسخ ذلك ، وأبيح تعاطيه إلى طلوع الفجر .
الفصل الأول
1956 - ( عن nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " nindex.php?page=hadith&LINKID=10359768إذا دخل رمضان " ) أي وقت شهره ، وهو مأخوذ من الرمضاء ، في القاموس : رمض يومنا كفرح : اشتد حره ، وقدمه احترقت من الرمضاء للأرض الشديدة الحرارة ، وسمي شهر رمضان به لأنهم لما نقلوا أسماء الشهور عن اللغة القديمة سموها بالأزمنة التي وقعت فيها ، فرافق زمن الحر ، أو من رمض الصائم : اشتد حر جوفه ، أو لأنه يحرق الذنوب ، ورمضان إن صح أنه من أسماء الله - تعالى - فغير مشتق ، أو راجع إلى معنى الغافر ، أي يمحو الذنوب ويمحقها " فتحت " بالتخفيف ، وهو أكثر كما في التنزيل ، وبالتشديد لتكثير المفعول " أبواب السماء " قيل : فتحها كناية عن تواتر نزول الرحمة وتوالي طلوع الطاعة ، ويؤيده رواية أبواب الرحمة ، قال الزركشي : إلا أن يقال : إن الرحمة من أسماء الجنة ، قال : والأظهر أنه على الحقيقة لمن مات فيه أو عمل عملا لا يفسد عليه ، ( وفي رواية : " nindex.php?page=hadith&LINKID=10359769فتحت أبواب الجنة " ) ، وهو كناية عن فعل ما يؤدي إلى دخولها " وغلقت " بالتشديد أكثر " أبواب جهنم " وهو كناية عن امتناع ما يدخل إليها ، لأن الصائم يتنزه عن الكبائر ، ويغفر له ببركة الصيام الصغائر ، وقد ورد : nindex.php?page=hadith&LINKID=10359770الصيام جنة ، قال التوربشتي : فتح أبواب السماء كناية عن تنزيل الرحمة ، وإزالة الغلق عن مصاعد أعمال العباد تارة ببذل التوفيق ، وأخرى بحسن القول ، وغلق أبواب جهنم عبارة عن تنزه أنفس الصائم عن رجس الفواحش ، والتخلص من البواعث على المعاصي بقمع الشهوات ، فإن قيل : ما منعكم أن تحملوا على ظاهر [ ص: 1361 ] المعنى ؟ قلنا : لأنه ذكر على سبيل المن على الصوام وإتمام النعمة عليهم فيما أمروا به وندبوا إليه ، حتى صار الجنان في هذا الشهر كأن أبوابها فتحت ، ونعيمها أبيحت ، والنيران كأن أبوابها غلقت وأنكالها عطلت ، وإذا ذهبنا فيه إلى الظاهر لم يقع المن موقعه ، ويخلو عن الفائدة لأن الإنسان ما دام في هذه الدنيا فإنه غير ميسر لدخول إحدى الدارين ، وجوز الشيخ محيي الدين النووي - رحمه الله - الوجهين في فتح أبواب السماء ، وتغليق أبواب جهنم ، أعني الحقيقة والمجاز ، أقول : يمكن أن يكون فائدة الفتح توفيق الملائكة على استحماد فعل الصائمين ، فإن ذلك من الله بمنزلة عظيمة ، وأيضا إذا علم المكلف المعتقد ذلك بإخبار الصادق يزيد في نشاط ويتلقاه بأريحيته ، وينصره حديث عمر في الفصل الثالث : إن الجنة تزخرفت لرمضان . الحديث ، ذكره الطيبي " nindex.php?page=hadith&LINKID=10359771وسلسلت الشياطين " أي قيدت بالسلاسل مردتهم ، وقيل : كناية عن امتناع تسويل النفوس ، واستعصائها عن قبول وساوسهم ، إذ بالصوم تنكسر القوة الحيوانية التي هي مبدأ الغضب والشهوات الداعيين إلى أنواع السيئات ، وتنبعث القوة العقلية المائلة إلى الطاعات ، كما هو مشاهد أن رمضان أقل الشهور معصية ، وأكثرها عبادة ( وفي رواية : " nindex.php?page=hadith&LINKID=10359767فتحت أبواب الرحمة " ) أي وغلقت أبواب جهنم إلى آخره ؛ قاله الطيبي ( متفق عليه ) قال ميرك : إلا رواية " أبواب السماء " فإنها من أفراد البخاري ، وإلا رواية " أبواب الرحمة " فإنها من أفراد مسلم ، والرواية المتفق عليها ; فتحت أبواب الجنة ، ورواها nindex.php?page=showalam&ids=15397النسائي اهـ وقال النووي : قيل : الأصل أبواب الجنة ، والروايتان الأخريان من تصرف الرواة ، تم كلامه ، فكان حق المصنف أن يجعل الرواية المتفق عليها أصلا ، ثم يقول : وفي رواية : فتحت أبواب السماء ، وفي رواية : فتحت أبواب الرحمة ، ثم يذكر : nindex.php?page=hadith&LINKID=10359772وغلقت أبواب جهنم وسلسلت الشياطين .