وممن أخرج
المبهمات في المراسيل أبو داود ، وكذا أطلق
النووي في غير موضع على رواية المبهم مرسلا ، وكل من هذين القولين خلاف ما عليه الأكثر ; فإن الأكثرين من علماء الرواية وأرباب النقل - كما حكاه الرشيد العطار في كتابه الغرر المجموعة عنهم - على أنه متصل في إسناده مجهول ، واختاره
[ ص: 190 ] العلائي في جامع التحصيل ، وأشار إليه بعض تلامذة الناظم بقوله : قلت : الأصح أنه متصل لكن في إسناده من يجهل .
ولكن ليس ذلك على إطلاقه ، بل هو مقيد بأن يكون المبهم صرح بالتحديث ونحوه ; لاحتمال أن يكون مدلسا وهو ظاهر ، وكذا قيد القول بإطلاق الجهالة ; بما إذا لم يجئ مسمى في رواية أخرى .
وإذا كان كذلك ، فلا ينبغي المبادرة إلى الحكم عليه بالجهالة ، إلا بعد التفتيش ; لما ينشأ عنه من توقف الفقيه عن الاستدلال به للحكم مع كونه مسمى في رواية أخرى ، وليس بإسناده ولا متنه ما يمنع كونه حجة ، ولذا كان الاعتناء بذلك من أهم المبهمات ، كما سيأتي .
وكلام
الحاكم في المنقطع يشير إليه ; فإنه قال : وقد يروى الحديث وفي إسناده رجل غير مسمى ، وليس بمنقطع ، ثم ذكر مثالا من وجهين ، سمي الراوي في أحدهما ، وأبهم في الآخر ، كما وقع للبخاري ; فإنه أورد حديثا من وجهين إلى
nindex.php?page=showalam&ids=12341أيوب السختياني ، قال في أحدهما : عن رجل عن
أنس ، وفي الآخر : عن
أبي قلابة عن
أنس .
ثم قال
الحاكم : وهذا لا يقف عليه إلا الحافظ الفهم المتبحر في الصنعة ، وبذلك صرح في المعضل كما سيأتي ، ثم إن صورة المسألة في وقوع ذلك من غير التابعي ، فأما لو قال التابعي : عن رجل ، فلا يخلو إما أن يصفه بالصحبة أم لا ،
[ ص: 191 ] فإن لم يصفه بها ، فلا يكون ذلك متصلا ; لاحتمال أن يكون تابعيا آخر ، بل هو مرسل على بابه .
وإن وصفه بالصحبة ، فقد وقع في أماكن من السنن وغيرها
للبيهقي تسميته أيضا مرسلا ، ومراده مجرد التسمية ، فلا يجري عليه حكم الإرسال في نفي الاحتجاج ، كما صرح بذلك في القراءة خلف الإمام من " معرفته " عقب حديث رواه عن
محمد بن أبي عائشة عن رجل من الصحابة ; فإنه قال : وهذا إسناد صحيح ، وأصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - كلهم ثقة ، فترك ذكر أسمائهم في الإسناد لا يضر ، إذا لم يعارضه ما هو أصح منه . انتهى .
وبهذا القيد ونحوه يجاب عما توقف عن الاحتجاج به من ذلك ، لا لكونه لم يسم ولو لم يصرح به ، ويتأيد كون مثل ذلك حجة بما روى
nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري عن
الحميدي قال : إذا صح الإسناد عن الثقات إلى رجل من الصحابة ، فهو حجة وإن لم يسم .
وكذا قال
الأثرم : قلت
لأحمد : إذا قال رجل من التابعين : حدثني رجل من الصحابة ولم يسمه ، فالحديث صحيح ؟ قال : نعم ، ولكن قيده
ابن الصيرفي بأن يكون صرح بالتحديث ونحوه ، أما إذا قال : عن رجل من الصحابة ، وما أشبه ذلك ، فلا يقبل .
قال : لأني لا أعلم أسمع ذلك التابعي منه أم لا ؟ إذ قد يحدث التابعي عن رجل ، وعن رجلين ، عن الصحابي ، ولا أدري هل أمكن لقاء ذلك
[ ص: 192 ] الرجل أم لا ، فلو علمت إمكانه فيه ، لجعلته كمدرك العصر .
قال الناظم : وهو حسن متجه ، وكلام من أطلق محمول عليه .
وتوقف شيخنا في ذلك ; لأن التابعي إذا كان سالما من التدليس ، حملت عنعنته على السماع ، وهو ظاهر .
قال : ولا يقال : إنما يتأتى هذا في حق كبار التابعين الذين جل روايتهم عن الصحابة بلا واسطة ، وأما صغار التابعين الذين جل روايتهم عن التابعين ; فلا بد من تحقق إدراكه لذلك الصحابي ، والفرض أنه لم يسمه ; حتى نعلم هل أدركه أم لا ؟ لأنا نقول : سلامته من التدليس كافية في ذلك ; إذ مدار هذا على قوة الظن ، وهي حاصلة في هذا المقام .