ولا يصح إلا في مجلس الحكم ، فإن رجعوا قبل الحكم بها سقطت ، وبعده لم يفسخ الحكم ، وضمنوا ما أتلفوه بشهادتهم ، فإن شهدا بمال فقضي به ، وأخذه المدعي ثم رجعا ضمناه للمشهود عليه ، فإن رجع أحدهما ضمن النصف ، والعبرة في الرجوع لمن بقي لا لمن رجع ، فلو كانوا ثلاثة فرجع واحد لا شيء عليه ، فإن رجع آخر ضمنا النصف ، وإن شهد رجل وامرأتان فرجعت واحدة فعليها ربع المال ، وإن رجعتا ضمنتا نصفه ، ولو شهد رجل وعشر نسوة ثم رجعوا فعلى الرجل السدس وعليهن خمسة أسداسه ( سم ) ، ولو شهد رجلان وامرأة ثم رجعوا فالضمان على الرجلين خاصة . شهدا بنكاح بأقل من مهر المثل ثم رجعا لا ضمان عليهما ، وإن كان بأكثر من مهر المثل ضمنا الزيادة للزوج ، وفي الطلاق إن كان قبل الدخول ضمنا نصف ( ف ) المهر وإن كان بعده لم يضمنا ( ف ) وإذا رجع شهود القصاص ضمنوا الدية ، وإذا رجع شهود الفرع ضمنوا ، وإن رجع شهود الأصل وقالوا : لم نشهد شهود الفرع لم يضمنوا ، ولا ضمان على شهود الإحصان ، وإن رجع شهود اليمين ، وشهود الشرط فالضمان على شهود اليمين وإذا رجع المزكون ضمنوا .
[ ص: 431 ] باب الرجوع عن الشهادة
الأصل فيه قول عمر - رضي الله عنه - في كتاب القاضي : فلا يمنعك قضاء قضيته وراجعت فيه نفسك وهديت فيه لرشدك أن ترجع فيه إلى الحق ، فإن الحق قديم لا يبطل ، والرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل ، فكذلك الشاهد لأن المعنى يجمعهما ، لأن الرجوع عن الشهادة الباطلة رجوع من الباطل إلى الحق ، والرجوع قوله شهدت بزور وما أشبهه ، وأصل آخر أن الشاهد بشهادته تسبب إلى إتلاف المال على المشهود عليه بإخراجه من ملكه يدا وتصرفا ، فإن أزاله بغير عوض ضمن الجميع ، وإن كان بعوض إن كان مثلا له لا ضمان عليه ، وإن كان أقل منه ضمن النقصان ، والقاضي ملجأ إلى القضاء من جهة الشهود فلا يضاف الإتلاف إليه .
قال : ( ولا يصح إلا في مجلس الحكم ) لأنه يحتاج فيه إلى حكم الحاكم بمقتضى الرجوع ، فلا بد من مجلس القاضي كما في الشهادة ، ولأنه توبة والشهادة جناية ، فيشترط استواؤها في الجهر والإخفاء; ولو أقام المشهود عليه البينة أنهما رجعا لم تقبل ولا يحلفان ، فإن قال رجعت عند قاض آخر كان هذا رجوعا مبتدأ عند القاضي .
قال : ( فإن رجعوا قبل الحكم بها سقطت ) لأن الحق لا يثبت إلا بالقضاء ، والقضاء بالشهادة وقد تناقضت .
قال : ( وبعده لم يفسخ الحكم ) لأن الشهادة والرجوع عنها سواء في احتمال الصدق والكذب ، إلا أن الأول ترجح بالقضاء فلا ينقض بالثاني .
قال : ( فإن شهدا بمال فقضى به وأخذه المدعي ثم رجعا ضمناه للمشهود عليه ) لوجود التسبب على وجه التعدي ، وأنه موجب للضمان كحافر البئر ، ولا وجه إلى تضمين المدعي ؛ لأن الحكم ماض ، ولا يضمن القاضي لما بينا ، ولأن في تضمينه منع الناس عن تقلد القضاء خوفا من [ ص: 432 ] الضمان ، ولو شهدا بعين ثم رجعا ضمنا قيمتها سواء أقبضها المشهود له ، أو لم يقبضها لأنه ملكها بمجرد القضاء ، والدين لا يملكه إلا بالقبض .
قال : ( فإن رجع أحدهما ضمن النصف ، والعبرة في الرجوع لمن بقي لا لمن رجع ) ألا يرى أنه إذا بقي من يقوم به الحق لا اعتبار برجوع من رجع ؟ وقد بقي هنا من يقوم بشهادته نصف الحق ، فيضمن الراجع النصف لأنه أتلفه .
( فلو كانوا ثلاثة فرجع واحد لا شيء عليه ) لبقاء من يبقى بشهادته جميع الحق .
( فإن رجع آخر ضمنا النصف ) لما مر .
قال : ( وإن شهد رجل وامرأتان فرجعت واحدة فعليها ربع المال ، وإن رجعتا ضمنتا نصفه ، ولو شهد رجل وعشر نسوة ثم رجعوا ، فعلى الرجل السدس وعليهن خمسة أسداسه ) وقالا : عليه النصف وعليهن النصف ، لأن النساء وإن كثرن فهن مقام رجل واحد ، لأنه لا يثبت بهن إلا نصف الحق . ولأبي حنيفة - رضي الله عنه - : أن كل امرأتين مقام رجل قال - صلى الله عليه وسلم - : " عدلت شهادة كل اثنتين بشهادة رجل واحد " فصار كشهادة ستة من الرجال ، ولو رجع النساء كلهن فعليهن النصف كما قلنا ، ولو رجع ثمان لا شيء عليهن ، ولو رجعت أخرى فعلى الراجعات الربع لما مر ، ولو رجع الرجل وثماني نسوة فعلى الرجل نصف الحق ولا شيء على الراجعات ؛ لأنه بقي منهن من يقوم به نصف الحق .
( ولو شهد رجلان وامرأة ثم رجعوا فالضمان على الرجلين خاصة ) لأن الحق ثبت بهما دونهما .
قال : ( شهدا بنكاح بأقل من مهر المثل ثم رجعا لا ضمان عليهما ) لأن المنافع غير متقومة [ ص: 433 ] إلا بالتمليك بالعقد ، والضمان يستدعي المماثلة ، وإنما يتقوم بالتمليك إظهارا لخطر المحل . ( وإن كان بأكثر من مهر المثل ضمنا الزيادة للزوج ) لأنهما أتلفاها بغير عوض .
قال : ( وفي الطلاق إن كان قبل الدخول ضمنا نصف المهر ) لأنهما أكدا ما كان على شرف السقوط .
( وإن كان بعده لم يضمنا ) لأن المهر تأكد بالدخول فلم يتلفا شيئا . شهدا بالطلاق وآخران أنه دخل بها ثم رجعوا ضمن شهود الدخول ثلاثة أرباع المهر وشهود الطلاق ربعه ، لأن الفريقين اتفقا على النصف ، فيكون على كل فريق ربعه ، وانفرد شهود الدخول بالنصف فينفردون بضمانه ، وفي الشهادة بالعتق يضمنان القيمة لأنهما أتلفا مالية العبد من غير عوض ، والولاء به ، لأن العتق لم يتحول إليهما فلا يتحول الولاء ، ولو شهدا بالبيع ثم رجعا ضمنا القيمة لا الثمن ، لأنهما أتلفا المبيع لا الثمن; ولو شهدا ببيع عبد ثم رجعا بعد القضاء وقيمة العبد أكثر من الثمن ضمنا الفضل ، ولو شهدا بالتدبير ثم رجعا ضمنا ما نقصه التدبير .
قال : ( وإذا رجع شهود القصاص ضمنوا الدية ) ولا قصاص عليهم لأنه لم يوجد القتل مباشرة ، والتسبيب لا يوجب القصاص كحافر البئر ، بخلاف الإكراه لأن المكره فيه مضطر إلى ذلك فإنه يؤثر حياته ، ولا كذلك الولي فإنه مختار والاختيار يقطع التسبيب ، وإذا امتنع القصاص وجبت الدية ، لأن القتل بغير حق لا يخلو عن أحد الموجبين ، ولو شهدا بالعفو عن القصاص ثم رجعا لم يضمنا ؛ لأن القصاص ليس بمال .
قال : ( وإذا رجع شهود الفرع ضمنوا ) لأن التلف أضيف إليهم فإن الذين ألجئوا القاضي إلى الحكم .
( وإن رجع شهود الأصل وقالوا : لم نشهد شهود الفرع لم يضمنوا ) لأنهم أنكروا التسبيب وهو الإشهاد ، والقضاء ماض ؛ لأنه خبر محتمل; ولو قالوا : أشهدناهم وغلطنا فلا ضمان عليهم . وقال محمد : يضمنون لأن الفروع نقلوا شهادتهم فصاروا كأنهم حضروا . ولهما أن القضاء وقع بما عاينه من الحجة وهي شهادة الفروع فيضاف إليهم ، ولو رجع الأصول والفروع جميعا فالضمان على الفروع عندهما لما بينا . وعند محمد إن شاء ضمن الأصول لما مر ، وإن شاء ضمن الفروع [ ص: 434 ] لما مر لهما ، والجهتان متغايرتان فلا يجمع بينهما .
قال : ( ولا ضمان على شهود الإحصان ) لأن الإحصان شرط محض ، والحكم يضاف إلى العلة لا إلى الشرط .