ولو نذر نذرا مطلقا فعليه الوفاء به ، وكذلك إن علقه بشرط فوجد وعن أبي حنيفة رحمه الله آخرا : أنه يجزئه - كفارة يمين إذا كان شرطا لا يريد وجوده ، ولو نذر ذبح ولده أو نحره لزمه ذبح شاة .
النذر قربة مشروعة ، أما كونه قربة فلما يلازمه من القرب كالصوم والصلاة والحج والعتق والصدقة ونحوها . وأما شرعيته فللأوامر الواردة بإيفائه ، قال تعالى : ( وليوفوا نذورهم ) وقال صلى الله عليه وسلم : " nindex.php?page=hadith&LINKID=10346816ف بنذرك " وقال عليه الصلاة والسلام : " من نذر وسمى فعليه الوفاء بما سمى " ، [ ص: 328 ] وقال عليه الصلاة والسلام : " nindex.php?page=hadith&LINKID=10346818من نذر أن يطيع الله فليطعه " إلى غيرها من النصوص ، وعلى شرعيته الإجماع ، ولا يصح إلا بقربة لله تعالى من جنسها واجب كالقرب المذكورة ، ولا يصح بما ليس لله تعالى من جنسها واجب كالتسبيح والتحميد وعيادة المرضى وتكفين الميت وتشييع الجنازة وبناء المساجد ونحوها . والأصل فيه أن إيجاب العبد معتبر بإيجاب الله تعالى ، إذ لا ولاية له على الإيجاب ابتداء ، وإنما صححنا إيجابه في مثل ما أوجبه الله تعالى تحصيلا للمصلحة المتعلقة بالنذر ، ولا يصح النذر بمعصية . قال صلى الله عليه وسلم : " nindex.php?page=hadith&LINKID=10346819لا نذر في معصية الله تعالى " .
قال : ( ولو نذر نذرا مطلقا ) أي بغير شرط ولا تعليق كقوله : علي صوم شهر أو نحوه ( فعليه الوفاء به ) لما تقدم ( وكذلك إن علقه بشرط فوجد ) لأن المعلق بالشرط كالمنجز عنده ، ولأن النذر موجود نظرا إلى الجزاء ، والجزاء هو الأصل والشرط تبع ، واعتبار الأصل أولى فصار كالمنجز .
( وعن أبي حنيفة رحمه الله آخرا : أنه يجزئه كفارة يمين إذا كان شرطا لا يريد وجوده ) كقوله : إن كلمت فلانا أو دخلت الدار فعلي صوم سنة أو صدقة ما أملكه ، وهو قول محمد رحمه الله ، واختاره بعض المشايخ للبلوى والضرورة ، ولو أدى ما التزمه يخرج عن العهدة أيضا لأن فيه معنى اليمين وهو المنع ، وهو نذر لفظا فيختار أي الجهتين شاء; ولو كان شرطا يريد وجوده كقوله : إن شفى الله مريضي أو قضى ديني أو قدمت من سفري لا يجزيه إلا الوفاء بما سمى لأنه نذر بصيغته وليس فيه معنى اليمين .
قال أبو حنيفة رضي الله عنه : لو قال لله علي إطعام عشرة مساكين أو كسوة عشرة مساكين لا يجزئه إلا ما يجزئ في كفارة اليمين لما تقدم أنه معتبر بإيجاب الله تعالى; وقوله : لله علي طعام مساكين ، كقوله إطعام ، لأن الطعام اسم عين وإنما يصح إيجاب الفعل . وقال أبو يوسف : لو قال : لله علي طعام أطعم إن شاء ولو لقمة .
ولو قال : علي نذر ونوى الصوم أو الصدقة دون العدد لزمه في الصوم ثلاثة أيام ، وفي الصدقة إطعام عشرة مساكين اعتبارا بالواجب في كفارة اليمين إذ هو الأقل فكان متيقنا; ولو نذرت صوم أيام حيضها أو قال : لله علي أن أصوم غدا فحاضت فهو باطل عند محمد وزفر رحمهما الله ، لأنها أضافت الصوم إلى وقت لا يتصور فيه . وقال أبو يوسف رحمه الله : يقضي في المسألة الثانية ، لأن الإيجاب صدر صحيحا في حال لا ينافي الصوم ولا إضافته إلى زمان ينافيه ، إذ الصوم متصور فيه والعجز بعارض محتمل كالمرض فتقضيه وصار كما إذا نذرت صوم شهر يلزمها قضاء أيام حيضها لأنه لا يجوز خلو الشهر عن الحيض فصح الإيجاب .
ولو نذر صوم اليوم الذي يقدم فيه فلان فقدم ليلا لا شيء عليه ، وكذا لو قدم بعد الزوال أو قبله وقد أكل عند محمد ، لأن المعلق بالشرط كالمتكلم به عند وجوده . وقال أبو يوسف : يقضي في الفصلين الآخرين كما إذا نذرت صوم غد فحاضت ; ولو قدم في رمضان أو في يوم الفطر قضاه ولا يجزئه صومه ، لأن الإيجاب خرج صحيحا .
ولو نذر صلاة ركعة أو صوم نصف يوم صلى ركعتين وصام يوما ، لأن الركعة صلاة وقربة في الجملة لاشتمالها على ذكر الله تعالى ، والقراءة وغيرها كالوتر عند بعضهم ، وصوم نصف يوم قربة كإمساك غداة الأضحى فصح التزامه ثم يلزمه حفظه وإتمامه ضرورة عدم التجزي شرعا ، ولو نذر ثلاث ركعات لزمه أربع عند أبي يوسف وركعتان عند زفر ; ولو نذر أن يصلي بغير وضوء فليس بشيء . وعن أبي يوسف يلزمه بوضوء لأن إيجاب أصل الصلاة صحيح وذكر الوصف باطل .
ولو نذر أن يصلي بغير قراءة أو عريانا صح خلافا لزفر ولزمته بقراءة مستورا ، لأن الصلاة كما ذكر قربة في الجملة كالأمي ومن لا يقدر على ثوب فصح الإيجاب .
قال : ( ولو نذر ذبح ولده أو نحره لزمه ذبح شاة ) عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله ، [ ص: 330 ] وكذا النذر بذبح نفسه أو عبده عند محمد ; وفي الوالد والوالدة عن أبي حنيفة روايتان الأصح عدم الصحة . وقال أبو يوسف وزفر . لا يصح شيء من ذلك لأنه معصية فلا يصح . ولهما في الولد مذهب جماعة من الصحابة كعلي nindex.php?page=showalam&ids=11وابن عباس وغيرهما رضي الله عنهم ، ومثله لا يعرف قياسا فيكون سماعا ، ولأن إيجاب ذبح الولد عبارة عن إيجاب ذبح الشاة ، حتى لو نذر ذبحه بمكة يجب عليه ذبح الشاة بالحرم . بيانه قصة الذبيح عليه السلام ، فإن الله تعالى أوجب على الخليل عليه السلام ذبح ولده بقوله : ( افعل ما تؤمر ) وأمره بذبح الشاة حيث قال : ( قد صدقت الرؤيا ) فيكون كذلك في شريعتنا ، إما لقوله تعالى : ( ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا ) أو لأن شريعة من قبلنا تلزمنا حتى يثبت النسخ ، وله نظائر : منها إيجاب الشيء إلى بيت الله تعالى عبارة عن حج أو عمرة ، وإيجاب الهدي عبارة عن إيجاب شاة ومثله كثير ، وإذا كان نذر ذبح الولد عبارة عن ذبح شاة لا يكون معصية بل قربة حتى قال الأسبيجابي وغيره من المشايخ : إن أراد عين الذبح وعرف أنه معصية لا يصح ونظيره الصوم في حق الشيخ الفاني معصية لإفضائه إلى إهلاكه ، ويصح نذره بالصوم وعليه الفدية ، وجعل ذلك التزاما للفدية كذا هذا . ولمحمد في النفس والعبد أن ولايته عليهما فوق ولايته على ولده فكان أولى بالجواز .
ولأبي حنيفة أن وجوب الشاة على خلاف القياس عرفناه استدلالا بقصة الخليل عليه السلام ، وإنما وردت في الولد فيقتصر عليه ، ولو نذر بلفظ القتل لا يلزمه شيء بالإجماع ، لأن النص ورد بلفظ الذبح والنحر مثله ، ولا كذلك القتل ، ولأن الذبح والنحر وردا في القرآن على وجه القربة والتعبد ، والقتل لم يرد إلا على وجه العقوبة والانتقام والنهي ، ولأنه لو نذر ذبح الشاة بلفظ القتل لا يصح فهذا أولى ، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب .