وهو جمع حد ، وهو في اللغة : المنع ، ومنه الحداد للبواب لمنعه الناس من الدخول ، وحدود العقار : موانع من وقوع الاشتراك ، وأحدت المعتدة : إذا منعت نفسها من الملاذ والتنعم على ما عرف ، واللفظ الجامع المانع حد ، لأنه يجمع معاني الشيء ويمنع دخول غيره فيه . وحدود الشرع : موانع وزواجر عن ارتكاب أسبابها .
( و ) في الشرع ( هي عقوبة مقدرة وجبت حقا لله تعالى ) وفيها معنى اللغة على ما بينا ، والقصاص لا يسمى حدا لأنه حق العباد ، وكذا التعزير لأنه ليس بمقدر ثبتت شرعيته بالكتاب والسنة . أما الكتاب فقوله تعالى : ( الزانية والزاني ) الآية ، وقوله تعالى : ( والسارق والسارقة ) الآية ، وقوله : ( والذين يرمون المحصنات ) الآية ، وآية المحاربة وغير ذلك . والسنة حديث ماعز والغامدية والعسيف وغيرها من الأحاديث المشهورة على ما يأتي في أثناء الأبواب إن شاء الله تعالى .
والمعقول وهو أن الطباع البشرية والشهوة النفسانية مائلة إلى قضاء الشهوة واقتناص [ ص: 332 ] الملاذ وتحصيل مقصودها ومحبوبها من الشرب والزنا والتشفي بالقتل وأخذ مال الغير والاستطالة على الغير بالشتم والضرب خصوصا من القوي على الضعيف ، ومن العالي على الدنيء ، فاقتضت الحكمة شرع هذه الحدود حسما لهذا الفساد ، وزجرا عن ارتكابه ليبقى العالم على نظم الاستقامة ، فإن إخلاء العالم عن إقامة الزاجر يؤدي إلى انخرامه ، وفيه من الفساد ما لا يخفى ، وإليه الإشارة بقوله تعالى : ( ولكم في القصاص حياة ) ومن كلام حكماء العرب : القتل أنفى للقتل .
قال : ( والزنا : وطء الرجل المرأة في القبل في غير الملك وشبهته ) أما الأول فلعموم موارد استعمال اسم الزنا ، فإنه متى قيل فلان زنى ، يعلم أنه وطئ امرأة في قبلها وطئا حراما; ألا يرى أن ماعزا لما فسر الزنا بالوطء في القبل حراما كالميل في المكحلة حده النبي صلى الله عليه وسلم; وأما كونه في غير الملك فلأن الملك سبب الإباحة فلا يكون زنا; وأما عدم الشبهة فلقوله عليه الصلاة والسلام : " nindex.php?page=hadith&LINKID=10346820ادرءوا الحدود بالشبهات " ولا بد فيه من مجاوزة الختان ، لأن المخالطة بذلك تتحقق ، وما دون ذلك ملامسة لا يتعلق بها أحكام الوطء من غسل وكفارة وصوم وفساد حج .
وأما الإقرار فالصدق فيه راجح لأنه إقرار على نفسه وفيه مضرة على نفسه ، وبه رجم عليه الصلاة والسلام ماعزا ، والعلم القطعي متعذر في حقنا فيكتفي بالظاهر الراجح .
وأما السؤال عن المزني بها لاحتمال أنها ممن تحل له أو له فيها شبهة لا يعرفها الشهود ، فإن سألهم فقالوا : لا نزيد على هذا لا يحدون لأنهم شهدوا بالزنا وهم أربعة وما قذفوا .
قال : ( فإذا بينوا ذلك وذكروا أنها محرمة عليه من كل وجه ، وشهدوا به كالميل في المكحلة وعدلوا في السر والعلانية حكم به ) لثبوته بالبينة ، وكيفية التعديل ذكرناه في الشهادات ، ولم يكتف أبو حنيفة رحمه الله بظاهر العدالة في الحدود احتيالا للدرء المندوب إليه .
( فإن نقصوا عن أربعة فهم قذفة ) يحدون للقذف إذا طلب المشهود عليه لأنه تعالى أوجب [ ص: 334 ] الحد عند عدم شهادة الأربع ، وكذلك إن جاءوا متفرقين إلا أن يكون في مجلس واحد في ساعة واحدة ، لأن قولهم احتمل أن يكون شهادة ، واحتمل أن يكون قذفا ، وإنما تتميز الشهادة عن القذف إذا وقعت جملة ، ولا يمكن ذلك دفعة واحدة منهم فاعتبرنا اتحاد المجلس وإن شهدوا أنه زنى بامرأة لا يعرفونها لم يحد لقيام الشبهة لاحتمال أنها زوجته أو أمته .
قال : ( وإن رجعوا قبل الرجم سقط وحدوا ) أما سقوط الحد فلبطلان الشهادة بالرجوع; وأما وجوب الحد عليهم فلأنهم قذفة .
( وإن رجعوا بعد الرجم يضمنون الدية ) لأنهم تسببوا إلى قتله ، والمتسبب تجب عليه الدية كحافر البئر .
( وإن رجع واحد فربعها ) لأنه تلف بشهادته ربع النفس; أو نقول : بقي من يبقى بشهادته ثلاثة أرباع الحق فيكون التالف بشهادته ربع الحق ، ولا وجه إلى وجوب القصاص لأنه متسبب ولا قصاص على المتسبب ، ويحد حد القذف مع الدية خلافا لزفر لأنه قذف حيا ومات فبطل; وإن كان قذف ميتا فقد رجم بقضاء فأورث شبهة . ولنا أن الشهادة إنما تصير قذفا بالرجوع فيجعل قاذفا للميت حالة الرجوع فقد بطلت الحجة فبطل القضاء الذي يبتنى عليها فلا يورث شبهة; وإن رجعوا بعد الجلد فالحد لما مر ولا يضمنون أرش السياط ، وكذلك إن مات من الجلد .
وقالا : يضمنون ، وإن رجع واحد فعليه ربع الأرش ، وإن مات فربع الدية لأنه من الجلد وقد حصل بسبب الشهادة ، فكان الشاهد هو الموجب كما في الرجم . ولأبي حنيفة أن أثر الضرب والموت ليس موجب الشهادة ، لأن الجلد قد يؤثر ولا يؤثر ، وقد يموت منه ولا يموت ، ولو كان موجب الشهادة لما انفك عنها كما في الرجم ، وإذا لم يكن موجب الشهادة لا يلزم الشاهد ضمانه ، ولأنه لو وجب إما أن يجب على الشاهد ولا وجه له لما بينا . أو على الجلاد ولا وجه له أيضا لأنه مأذون في فعله لا على وجه البدل ، ولم يتعمد تجاوز ما أمر به كمعين القصار ، ولأنا لو أوجبناه عليه لامتنع الناس من ذلك وفيه ضرر جلي ، أو على بيت المال ، ولا وجه له ، لأن الحكم غير موجب له لأنه ينفك عنه غالبا فلا يجب كما قلنا في الشاهد .
قال : ( وإن شهدوا بزنا متقادم لم يمنعهم عن إقامته بعدهم عن الإمام لم تقبل ) لما روي [ ص: 335 ] أن عمر رضي الله عنه خطب فقال : " أيما شهود شهدوا بحد لم يشهدوا عند حضرته فإنما هم شهود ضغن لا تقبل شهادتهم " ولأنها شهادة تمكنت فيها تهمة فتبطل . بيانه أن الشهود إذا عاينوا الفاحشة فهم بالخيار إن شاءوا شهدوا به حسبة لإقامة الحد ، وإن شاءوا ستروا على المسلم حسبة أيضا ، فإن اختاروا الأداء حرم عليهم التأخير ، لأن تأخير الحد حرام ، فيحمل تأخيرهم على الستر حسبة حملا لهم على الأحسن ، فإذا أخروا ثم شهدوا اتهموا أنهم إنما شهدوا لضغينة حملتهم على ذلك كما قال عمر رضي الله عنه ، وإن كان تأخيرهم لا لحسبة الستر ثبت فسقهم وردت شهادتهم ، بخلاف الإقرار لأن الإنسان لا يعادي نفسه فلا يتهم; ثم التقادم في الحدود الخالصة لله تعالى يمنع قبول الشهادة إلا إذا كان التأخير لعذر كبعد المسافة أو مرض ونحو ذلك .
فحد الزنا والشرب والسرقة خالص حق الله تعالى حتى يصح رجوع المقر عنها فيكون التقادم فيها مانعا; وحد القذف فيه حق العبد لما فيه من دفع العار عنه ، ولهذا توقف على دعواه ولا يصح الرجوع عنه ، فالتقادم فيه لا يمنع قبول الشهادة لأن الدعوى فيه شرط ، فاحتمل أن تأخيرهم لتأخير الدعوى فلا يتهمون في ذلك; ولا يلزم حد السرقة لأن الدعوى شرط للمال لا للحد ، لأن الحد خالص حق الله ، ولأن السرقة تكون في السر والخفية من المالك فيجب على الشاهد إعلامه ، فبالتأخير يفسق أيضا .
وأما حد التقادم فأبو حنيفة لم يقدر في ذلك وفوضه إلى رأي الإمام كما هو دأبه . وروى المعلى عن أبي يوسف قال : جهدنا بأبي حنيفة أن يوقت في التقادم شيئا فأبى ، لأن التقادم يختلف باختلاف الأحوال والأعذار ورده إلى اجتهاد الحاكم . وروى الحسن ومحمد عن أبي حنيفة أنهم إذا شهدوا بعد سنة لم تقبل شهادتهم ، وهذا لا ينافي الأول لأنه جعل السنة تقادما ولم يمنع ما دونها . وقال أبو يوسف ومحمد : إذا شهدوا بعد مضي شهر فهو تقادم لأنه في حكم البعيد وما دونه في حكم القريب ، فوجب أن يقدر التقادم به إذا لم يكن عذرا . وعن nindex.php?page=showalam&ids=14695الطحاوي ستة أشهر .
وكذلك روي عن أبي بريدة أنه قال : " كنا نتحدث بين يدي رسول الله عليه الصلاة والسلام أن ماعزا لو قعد في بيته بعد المرة الثالثة ولم يقر لم يرجمه صلى الله عليه وسلم " وهذا دليل على أنهم عرفوه شريعة قبل رجم ماعز ; ولأن الزنا اختص بزيادة تأكيد لم يجب في غيره من الحدود إعظاما لأمره وتحقيقا لمعنى الستر كزيادة عدد الشهود والسؤال عن حال المقر ، فيناسب أن يختص بزيادة العدد في الأقارير أيضا واشتراط اختلاف المجالس لما روينا ، ولأن اتحاد المجلس يؤثر في جميع المتفرقات فتثبت شبهة الاتحاد في الإقرار ، والمعتبر اختلاف مجلس المقر لأن الإقرار قائم به دون القاضي .
فإذا أقر أربعا على ما وصفنا يسأل القاضي عن حاله ، لما روي nindex.php?page=hadith&LINKID=10346827أنه عليه الصلاة والسلام قال لماعز : " أبك داء ؟ أبك خبل ؟ أبك جنون ؟ فقال لا ، وبعث إلى قومه فسألهم هل تنكرون من حاله شيئا ؟ قالوا : لا ، فأمر به فرجم " فإذا عرف صحة عقله سأله عن الزنا لما تقدم في [ ص: 337 ] الشهود ، ولاحتمال أنه وطئها فيما دون الفرج واعتقده زنا ، ولأنه صلى الله عليه وسلم قال لماعز : " لعلك لمست ، لعلك قبلت ، لعلك باشرت " ، فلما ذكر ماعز النون والكاف قبل إقراره ، ويسأله عن المزني بها لأنه صلى الله عليه وسلم قال لماعز : " فبمن " ؟ ولجواز أنه وطئ من لا يجب الحد بوطئها كجارية الابن والجارية المشتركة ونحوهما وهو لا يعلم ذلك ، ويسأله عن المكان لما بينا ولا يسأله عن الزمان ، لأن التقادم لا يمنع قبول الإقرار لما بينا ، وقيل يسأله لجواز أنه زنى حالة الصغر ، فإذا بين ذلك لزمه الحد لتمام الحجة ولما روينا .
قال : ( وإذا رجع عن إقراره قبل الحد أو في وسطه خلي سبيله ) لأن رجوعه إخبار يحتمل الصدق كالإقرار ولا مكذب له . فتحققت الشبهة لتعارض الإقرار بالرجوع ، بخلاف القصاص وحد القذف لأنه حق العبد فإنه يكذبه فلا معارض لإقرار الأول .
وإذا أقر الخصي بالزنا يحد لأنه قادر على الإيلاج لسلامة آلته ، ولو أقر المجبوب لا يحد لكذبه قطعا ، وكذلك الشهادة عليهما ، ولا يحد الأخرس بالإقرار إشارة للشبهة ، وإذا أقر أنه زنى بامرأة غائبة أقيم عليه الحد استحسانا ، والقياس أن لا يحد حتى تحضر لجواز أنها تدعي شبهة لسقوط الحد . وجه الاستحسان أن ماعزا أقر بالزنا بامرأة غائبة فرجمه صلى الله عليه وسلم قبل إحضارها . المقضي برجمه إذا قتله إنسان أو فقأ عينه لا شيء عليه ، ولو قتله قبل القضاء يجب القصاص في العمد والدية في الخطأ لأنه إنما يصير مباح الدم بالقضاء .