النوع الثالث والعشرون :
معاملة مكتسب الحرام كمتعاطي الربا ، والغلول ، وأثمان الغصوب ، والخمور ، ونحو ذلك
وفي " الجواهر " : إما أن يكون الغالب على ماله الحرام ، أو الحلال ، أو جميعه حرام إما بأن لا يكون له مال حلال ، أو ترتب في ذمته من الحرام ما يستغرق ما بيده من الحلال .
فإن كان الغالب الحلال أجاز
ابن القاسم معاملته ، واستقراضه ، وقبض الدين منه ، وقبول هديته ، وهبته ، وأكل طعامه ، وحرم جميع ذلك
ابن وهب ، وكذلك
أصبغ على أصله من أن المال إذا خالطه حرام يبقى حراما كله ، يلزمه التصدق بجميعه ، قال
أبو الوليد : والقياس قول
ابن القاسم ، وقول
ابن وهب استحسان ، وقول
أصبغ تشدد ، فإن قاعدة الشرع اعتبار الغالب .
[ ص: 318 ] وإن كان الغالب الحرام امتنعت معاملته ، وقبول هديته كراهة عند
ابن القاسم ، وتحريما عند
أصبغ ، إلا أن يبتاع سلعة حلالا ، فلا بأس أن يبتاع منه ، ويقبل هديته إن علم أنه قد بقي في يديه ما يفي بما عليه من التبعات على القول بأن معاملته مكروهة ، ويختلف على القول بالتحريم .
فإن كان الجميع حراما على ما تقدم تفسيره ، ففي معاملته ، وهديته ، وأكل طعامه أربعة أقوال : يحرم ذلك كله ، وإن كانت السلعة التي وهب والطعام الذي أطعم علم أنه اشتراه نظرا إلى الثمن ، فإن علم أنه ورثه ، أو وهب له ، فيجوز إلا أن يكون قد ترتب في ذمته من الحرام ما يستغرق ما ورث ، أو وهب له ، فيكون حكمه حكم ما اشتراه ، وكذلك ما صاده .
والقول الثاني : أن معاملته تجوز في ذلك المال فيما ابتاعه من السلع ، وما وهب له ، أو ورثه وكان عليه من التبعات ما يستغرقه إذا عامله بالقيمة ، ولم يحابه نظرا لتجدد
المالك ، ولا تجوز هبته في شيء من ذلك ، ولا محاباته ; لأنه مستغرق الذمة بما يتعين له هذا المال .
والقول الثالث : لا تجوز مبايعته في ذلك المال ، فإن اشترى به سلعة جاز أن تشترى ، وأن تقبل منه هبته ، وكذلك ما ورثه ، أو وهب له ، وإن استغرقته التبعات التي عليه ، قال
ابن حبيب : وكذلك هؤلاء العمال فيما اشتروه في الأسواق فأهدوه لرجل جاز له .
والقول الرابع : يجوز مبايعته ، وقبول هبته ، وأكل طعامه في ذلك المال ، وفيما اشتراه ، أو وهب له ، أو ورثه ، وإن كان ما عليه من التبعات استغرقه ، قال
أبو الوليد : فعلى هذا القول يجوز أن تورث عنه ، واختلف على القول بمنع معاملته في ذلك المال ، وقبول هبته وأكل طعامه هل يسوغ للوارث الوراثة أو لا ؟ على قولين : يسوغ بالموارثة لا بالهبة ، قاله
nindex.php?page=showalam&ids=15968سحنون ، والثاني : لا يسوغ بالميراث كما لا يسوغ بالهبة ، ويلزم الوارث التخلي عن هذا المال ، والصدقة به كما كان يلزم الموروث .
[ ص: 319 ] مسألة
قال : من اشترى سلعة حلالا بمال حرام ، والثمن عين ، قال أصحابنا : يجوز شراؤها منه ، علم صاحبها بخبث الثمن أم لا ; لأن النقدين لا يتعينان ، وأجاز
ابن عبدوس مع العلم بخبث الثمن دون الجهل . . . وكره
nindex.php?page=showalam&ids=15968سحنون شراءها مع العلم والجهل ، فأما شراؤها بعرض بعينه حرام فلا يجوز ، فإن باع شيئا حراما بشيء حلال ، قال
أحمد بن نصر الداودي : المأخوذ في الحرام حرام ، وحرم الحلال بيد لأخذه إن علم بذلك .
مسألة
قال
ابن نصر الداودي :
وصايا السلاطين المعروفين بالظلم المستغرقي الذمة غير جائزة عنهم مردودة ، ولا تورث أموالهم ; لأن ما بين أيديهم للمظلومين إن علموا ، أو للمسلمين إن جهلوا .
مسألة
قال صاحب " البيان " : قال
مالك : لا بأس
بحضور أهل الفضل الأسواق يشتري لنفسه ، وإن سومح لفضله ، وحاله ، فلا بأس به ; لأنه شيء كان منهم إليه دون سؤال ، وكان
nindex.php?page=showalam&ids=2عمر بن الخطاب رضي الله عنه يدخل السوق ،
nindex.php?page=showalam&ids=15959وسالم بن عبد الله ، قال الله تعالى : (
وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق ) ردا لقول المشركين : (
مال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق ) .
مسألة
قال : مال بيت المال إن كان مجباه حلالا ، وقسم على الوجه المشروع ، فتركه إنما يكون ( ورعا ) وإيثارا لغيره على نفسه ، وهو حسن ، وإن كان محتاجا إليه فهو
[ ص: 320 ] ممن قال الله فيهم : (
ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ) ، وإن كان المجبا حلالا ، ولم يعدل في قسمته ، فمن العلماء من كره أخذه ، وأكثرهم يجيزه ، وإن كان المجبا حلالا ، وحراما فأكثرهم كرهه ، وأجازه أقلهم ، فإن كان حراما صرفا حرم
مالك الأخذ منه ، ومن العلماء من أجازه ، ومنهم من كرهه ، وهم الأكثرون ; لأنه اختلط ، وتعذر رده ، غير أن غيره أحسن منه .
مسألة
قال :
معاملة الذمي آكل الربا ، وبائع الخمر في ذلك المال أخف من المسلم ، قال : لكونه غير مخاطب بفروع الشريعة على الصحيح من الأقوال ، وأجمعوا على أنه لو أسلم حل له ثمن الخمر ومال الربا ، بخلاف المسلم لو تاب ، وله أن يعطيه في الجزية .
مسألة
قال : جزم
أصبغ بتحريم
كراء القياسر ، والحوانيت المغصوبة ، والمبنية بالمال الحرام ، ولا يقعد عندهم في تلك الحوانيت ، ولا تتخذ طريقا إلا المرة بعد المرة إذا احتاج إلى ذلك ، ولم يجد منه بدا ، وكذلك قاله
ابن القاسم في المسجد ، قال
أصبغ : وما اكتسب في الحوانيت فهو حرام ، قال
ابن رشد : مقتضى الأصول عدم التحريم في المكتسب في الحوانيت ، ويلزمه الكراء لها في المدة الماضية ، ويحرم المقام فيها ، وأما المبنية بالحرام فلا يحرم كراؤها بل يكره ، قال : لأن البنيان لبانيه ، والحرام مرتب في ذمته ، وكذلك المسجد تكره الصلاة فيه فقط ، والمال الحرام الذي لا يعلم ربه سبيل الفيء لا سبيل الصدقة على المساكين ، وعلى هذا تجوز الصلاة دون كراهة إذا جهل صاحب المال الحرام الذي بني به المسجد .
مسألة
قال :
إذا غصبك وقضي عليه ، وليس عنده إلا مال حرام ، قال
أصبغ : لا يأخذ
[ ص: 321 ] ويتبعه بما له عليه ، وإن دفع لك اللص ، أو الغاصب غير
مالك لا يحل لك أخذه ، قال : والذي يقتضيه القياس أخذ قيمة متاعه ، وإن استغرق ذمته الحرام .
مسألة
قال : قال
أصبغ : الذي لا يؤدي زكاته ماله كله فاسد ، لا يعامل ، ولا يؤكل منه ، وإن عامله أحد تصدق بما وصل إليه منه كمعامل الغاصب ; لأنه غاصب للمساكين ، بل أشد من الغاصب ، وليس من ظلم واحدا كمن ظلم الناس أجمعين ; لأن الزكاة ظلم الفقراء ، والمساكين ، والأصناف الثمانية ، وللمشتري منه الرد عليه ، قال : وهذا من
أصبغ على أصله أن المال الذي بعضه حرام حرام كله ، وأما على رأي
ابن القاسم إذا كان غالب ماله الحلال جازت معاملته ، وأما إذا كان ناويا إخراج الزكاة فتجوز معاملته ، وهبته ، وعلى الواهب إثم التأخير .
وقوله : يتصدق بما عامله فيه فلا وجه له ، بل يتصدق بنائب المساكين ، وهو ربع عشره .
وقوله : يرد عليه ما اشتراه سواء على أصله ما ابتاع من الطعام الذي لم يزكه ، أو باع منه شيئا بدنانير لم يؤد زكاتها ، وقيل : لا يرد في الوجهين ، وهو المتجه على قول
ابن القاسم في " المدونة " : إذا باع الثمرة بعد وجوب الزكاة لا يأخذها المتصدق من المشتري إن كان البائع عديما ، وقيل : له ذلك في الطعام دون الدنانير ، ولا خلاف أن من باع ، واشترى من مستغرق الذمة بالحرام ، وهو لا يعلم أن له الرد ; لأنه لم يرض بمعاملة الذمة الحرام .
مسألة
قال إمام الحرمين في كتابه " الغياثي " : لو طبق الحرام الأرض جاز أن يستعمل من ذلك ما تدعو إليه الحاجات ، ولا تقف إباحة ذلك على الضرورات لئلا يؤدي إلى ضعف العباد ، واستيلاء الكفرة على البلاد ، وتنقطع الناس عن الحرف ، والصنائع بسبب الضعف ، ولا ينبسط فيه كما ينبسط في المباح ، قال : وصورة هذه المسألة أن يجهل المستحق بحيث يتوقع معرفته ، فلو حصل الإياس منه
[ ص: 322 ] بطلت المسألة ، وصار ذلك المال من بيت المال ، وإنما جاز ذلك للضرورة ، فإن جاز لمن حصلت له ضرورة أموال الناس وهو واحد ، فجميع الناس أولى ، وقد يكون ذلك فاسقا عند الله تعالى ، والغالب أن الجماعة لا تخلو من ولي صالح .
مسألة
قال بعض العلماء : إذا دفع إلينا الظلمة بعض أموال الناس ، وعلمنا أنه مغصوب ، والآخذ ممن يقتدى به ، وأخذه يفسد ظن الناس فيه حرم عليه أخذه لما فيه من تضييع مصالح الفتيا ، والاقتداء ، وهذه المصالح أرجح من رد المغصوب على ربه ، وإن كان غير مقتدى به ، وأخذه لنفسه حرم عليه ، أو ليرده على المغصوب منه جاز ، فإن جهل مالكه وجب عليه أن يعرفه ، فإن تعذرت معرفته صرفه في المصالح العامة ، وإن كان المال مأخوذا بحق ، فإن كان من أهل ذلك المال لكونه من أهل الزكاة ، أو الخمس ، وأعطي قدر حقه أخذه ، أو زائدا أخذ حقه ، ويبقي الزائد عنده لأهله ، وإن كان من الأموال العامة أخذه إن لم تفت بأخذه مصلحة الفتيا ، والاقتداء ، وصرفه في الجهات العامة .