صفحة جزء
[ ص: 327 ] الباب التاسع في الجمعة .

وهي مشتقة من الجمع ; لاجتماع الناس فيها ; وكان اسمه في الجاهلية عروبة من الإعراب الذي هو التحسين لمكان تزين الناس فيه ، ومنه قوله تعالى : ( عربا أترابا ) أي : محسنات لبعولتهن ، وقد جمع أسماء الأسبوع في الجاهلية الأولى على الترتيب مبتدئا بالأحد قول القائل :

أؤمل أن أعيش وإن يومي بأول أو بأهون أو جبار     أو التالي دبار فإن يفتني
فمؤنس أو عروبة أو شبار

.

وهذا اليوم الذي أمرت الأمم بتعظيمه ، فعدلوا عنه إلى السبت والأحد ، وفي الموطأ قال - عليه السلام - : " خير يوم طلعت عليه الشمس : يوم الجمعة ; فيه خلق الله آدم ، وفيه أهبط ، وفيه تيب عليه ، وفيه مات ، وفيه تقوم الساعة ، وما من دابة إلا وهي مصيخة يوم الجمعة من حين يصبح حتى تطلع الشمس شفقا من الساعة إلا الجن والإنس ، وفيه ساعة لا يصادفها عبد مسلم ، وهو [ ص: 328 ] يصلي يسأل الله شيئا إلا أعطاه إياه . وفيه قال كعب الأحبار ، وعبد الله بن سلام : هذه الساعة مذكورة في التوراة .

فوائد : ذكر هذه الكائنات فيه في سياق تعظيمه يدل على عظمها وعظمه ، أما عظمها فخلق آدم - عليه السلام - وهو المفضل على الملائكة ومبدأ نوع الإنسان ، والأنبياء ، والرسل - عليهم السلام - ، وإن كانت أكثر ذريته من أهل الكفران ووقود النيران ، إلا أن ذرة من الإيمان لا يعدلها شيء من الكفران ، ولحظة من القرب يغتفر لها هجران الدهر ، وأما التوبة عليه فسبب السعادة ، ومبدأ السيادة ، وأما قيام الساعة فهو المقصود بالرسائل ، ونصب الوسائل ، وفيه إكرام الأبرار ، وخزي الفجار ، وأما إصاخة الدواب وإشفاقها ; فدليل إدراكها وهو مختلف فيه يحرر في غير هذا الموضع ، وأما ساعة الإجابة ففيها أربعة أقوال : قال صاحب القبس : الصحيح أنها من حين جلوس الإمام إلى حين تقضى الصلاة ، وهو في مسلم . وفي أبي داود وحين تقام الصلاة إلى انصراف منها ، وفي الترمذي : التمسوها بعد العصر إلى غيوبة الشمس . وقال عبد الله بن سلام : هي آخر ساعة في النهار ، وقيل : غير مختصة ، وبه يمكن [ ص: 329 ] الجمع بين الأقوال ، وفي القبس هي الساعة التي تيب على آدم فيها ، وقوله : وهو قائم يصلي مع امتناع الصلاة على الأقوال الأول إما من مجاز التشبيه ; لأن السامع للخطبة أو الجالس المنتظر لصلاة المغرب بمنزلة المصلي ; أو من باب إطلاق لفظ المسبب على السبب ، فإن انتظار الصلاة سبب لإيقاعها ، ولذلك ، قال - عليه السلام - : " من جلس مجلسا ينتظر الصلاة ، فهو في صلاة حتى يصلي " .

تنبيه

لما كانت القلوب تصدأ بالغفلات والخطيئات كما يصدأ الحديد ، اقتضت الحكمة الإلهية جلاءها في كل أسبوع بمواعظ الخطباء ، وأمر بالاجتماع ليتعظ الغني بالفقير ، والقوي بالضعيف ، والصالح بالطالح ، ولذلك أمر باجتماع أهل الآفاق في الحجيج مرة في العمر ، لئلا يشق عليهم ، بخلاف أهل البلد .

فرع

وفي الكتاب : كره تخصيصه بترك العمل تشبيها بأهل الكتاب في السبت والأحد ، وفي الجواهر صلاة الجمعة فرض على الأعيان ; لقوله تعالى : ( إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله ) - والأمر للوجوب ، وقال بعض أهل العلم : على الكفاية ، ومنشأ الخلاف : هل المقصود إصلاح القلوب بالمواعظ والخشوع فيعم ، أو إظهار الشعائر وهو حاصل بالبعض فيخص ؟ .

تمهيد : يحكي جماعة من الأصحاب الخلاف : هل الجمعة بدل من الظهر أم لا ؟ وأنت تعلم أن البدل لا يفعل إلا عند تعذر المبدل ، والجمعة يتعين فعلها مع [ ص: 330 ] إمكان الظهر فهو مشكل ; والحق أن يقال : إنها بدل من الظهر في المشروعية ، والظهر بدل منها في الفعل ، والمذهب : أنها واجب مستقل بناء على ما ذكرناه ، وقال الحنفية : الواجب الظهر ، ويجب إسقاطه بالجمعة ، وهو كلام غير معقول ; فإن الواجب ما لا يجوز تركه ، وهذا يجب تركه ; فالجمع بينهما متناقض .

قاعدة

البدل في الشرع خمسة أقسام : بدل من المشروعية كالجمعة بدل الظهر ، والكعبة بدل من المقدس ، وبدل من الفعل كالخفين بدل من الغسل ، ومسح الجبيرة بدل الغسل ، وبدل في بعض الأحكام دون الفعل والمشروعية كالتيمم مع الوضوء ، ومن كل الأحكام كالصوم من العتق في كفارة الظهار ، وبدل من حالة من أحوال الفعل دون المشروعية والفعل والأحكام كالعزم بدل عن تعجيل العبادة في أول الوقت ، والتعجيل والتأخير والتوسط أحوال عارضة للفعل ، ولكل واحد أحكام تخصه : فخاصية الأول : أن يكون البدل أفضل ، وأن لا يفعل المبدل عنه إلا عند تعذر البدل ، عكسه غيره ; أو قد لا يفعل ألبتة كالصلاة للمقدس ، وخاصية الثاني المساواة في المحل ، وقد يستوي الحكم كالجبيرة ، وقد يختلف كالخف لوجوب الأعلى دون الأسفل ، وخاصية الثالث : أن لا ينوب عن المبدل في غير ذلك الحكم ، بل يختص المبدل منه بأحكام ، وخاصية الرابع : استواء البدل والمبدل في الأحكام بسببهما . وخاصية الخامس : أن الفعل بجملة أحكامه باق ، وإنما الساقط بالبدل حالة من الأحوال دون شيء من الأحكام ، وهذه القاعدة تظهر بطلان قول القائل : البدل يقوم مقام المبدل مطلقا ، وأن يفعل إلا عند تعذر المبدل ، بل ذلك يختلف في الشرع - كما ترى . وفي الباب ثلاثة فصول :

التالي السابق


الخدمات العلمية