فصل :
القول في إمكان الأداء هل هو شرط في الوجوب أو الضمان ؟ فإذا تقرر توجيه القولين ، انتقل الكلام إلى التفريع عليهما وعلى اختلاف قوليه في إمكان الأداء هل هو من شرائط الوجوب أو من شرائط الضمان ؟ لأنهما أصلان متفقان ، وفي كل أصل منهما قولان ، وليس لهذين القولين تأثير مع بقاء المال وسلامته ، وإنما تأثيرهما مع تلف المال وعطبه ، وليس يخلو حال تلفه من أحد أمرين : إما أن يكون قبل الحول أو بعده ،
[ ص: 91 ] فإن كان
تلف المال قبل الحول ، فحكم التالف منه حكم ما لا يوجد ، فإن تلف جميع المال فلا زكاة ، وإن تلف بعضه اعتبر حكم باقيه إذا حال حوله ، فإن بلغ نصابا زكاه ، وإن نقص عن نصاب فلا زكاة ، فهذا حكم التالف قبل الحول .
وأما
التالف بعد الحول فعلى ضربين .
أحدهما : أن يتلف بعد الحول وبعد إمكان الأداء ، فهذا الزكاة عليه واجبة ، سواء تلف بعض المال أو جميعه ، سواء قيل : إن الإمكان من شرائط الوجوب أو من شرائط الضمان ، لأنه بإمكان الأداء قد وجب عليه إخراجها وحرم عليه إمساكها ، وصار بعد الأمانة ضامنا كالوديعة التي يجب ردها فيضمنها المودع بحبسها .
وقال
أبو حنيفة : لا ضمان عليه ؛ لأن إخراجها عنده على التراخي لا على الفور ، فيخرجها متى شاء . وهذا غلط ، بل إخراجها على الفور ؛ لأن ما وجب إخراجه وأمكن أداؤه لم يجز تأخيره ، كالودائع وسائر الأمانات .
والضرب الثاني : أن يكون التلف بعد الحول وقبل إمكان الأداء ، فذلك ضربان :
أحدهما : إن تلف جميع المال فلا زكاة عليه على القولين جميعا لا يختلف ، سواء قيل : إن الإمكان من شرائط الوجوب أو من شرائط الضمان ، لأنا إن قلنا : إن إمكان الأداء من شرائط الوجوب فقبل الإمكان لم تجب الزكاة ، وإن قلنا : إن الإمكان من شرائط الضمان فقد وجبت الزكاة بالحول غير أنها في يده أمانة للمساكين لا يضمنها إلا بالإمكان ، وإذا كانت في يده أمانة لم يلزمه ضمانها بالتلف كالوديعة .
والضرب الثاني : أن يتلف بعض المال ويبقى بعضه ، فعند ذلك يتضح تبيين القولين في كل واحد من الأصلين ، وسنذكر لفروعهما وبيان تأثيرهما فصلين .
أحدهما : في الغنم .
والثاني : في الإبل ، لنبني عليهما جميع الفروع ، فأما الفصل في الغنم فهو : أن يكون معه ثمانون شاة يحول عليها الحول ثم تتلف منها أربعون قبل إمكان الأداء وتبقى الأربعون ، فهذا ترتيب على الأصلين في إمكان الأداء وعفو الأوقاص ، وإن قلنا : إن إمكان الأداء من شرائط الوجوب فعليه شاة كاملة لوجود الإمكان وهو يملك أربعين ، وما تلف قبل الإمكان كما لم يكن ، وإن قلنا : إن الإمكان من شرائط الضمان ، وأن الوجوب بالحول انبنى ذلك على اختلاف قوله في الوقص هل له مدخل في الوجوب أم لا ؟ فإن قلنا : لا مدخل له في الوجوب ، وأن الشاة مأخوذة من الأربعين والزيادة عليها عفو فعليه شاة أيضا ؛ لأن ما لا يتعلق به الوجوب وجوده وعدمه سواء ، وإن قلنا : إن الوقص داخل في الوجوب وأن الشاة مأخوذة
[ ص: 92 ] من الكل فعليه نصف شاة ؛ لأن الشاة وجبت في ثمانين ، فتلف نصفها أمانة لتلف نصف المال ، ووجب نصفها لبقاء نصف المال ، فحصل في قدر الزكاة من هذه المسألة وجهان : أحدهما : شاة .
والثاني : نصف شاة .
ولو حال الحول ومعه ثمانون فتلف منها قبل الحول ستون وبقي عشرون ، فيخرج زكاتها على ثلاثة أوجه :
أحدها : لا زكاة فيها إذا قلنا إن الإمكان من شرائط الوجوب .
والوجه الثاني : أن فيها نصف شاة إذا قيل : إن الإمكان من شرائط الضمان ، وأن الشاة وجبت في الأربعين والزيادة عليها عفو .
والوجه الثالث : أن فيها ربع شاة إذا قيل : إن الإمكان من شرائط الضمان ، وأن الشاة وجبت في الثمانين لبقاء ربعها وتلف ثلاثة أرباعها ، فهذا فصل في الغنم يوضح جميع فروعه ، وإنما ذكرناه وبدأنا به وإن لم يكن هذا موضعه ، لأنه أبين والتفريع عليها أسهل .
وأما الفصل في الإبل فينقسم قسمين : قسم يكون فريضة الغنم ، وقسم يكون فريضة الإبل ، وجواز كل واحد منهما دال على وجوب الآخر ، لكن في ذكرهما زيادة بيان .
فأما فريضة الغنم ، فكرجل كان معه تسع من الإبل حال حولها ، ثم تلف منها أربع قبل إمكان الأداء وبقي خمسة ، فإن قلنا : إن الإمكان شرط في الوجوب فعليه شاة ؛ لأن الوجوب حدث وهو يملك خمسا ، وإن قلنا : إن الوجوب بالحول والإمكان من شرائط الضمان فإن قلنا : إن الشاة مأخوذة من الخمس والزيادة عليها عفو ، فعليه شاة أيضا ، وإن قلنا إن الشاة مأخوذة من التسع فعليه خمسة أتساع المال ، فحصل في قدر زكاتها وجهان :
أحدهما : شاة كاملة .
والثاني : خمسة أتساع شاة ، فلو حال حول على تسع من الإبل ثم تلف منها قبل الإمكان خمس وبقي أربع ، ففي زكاتها ثلاثة أوجه :
أحدها : لا زكاة فيها . إذا قيل : إن الإمكان من شرائط الوجوب .
والثاني : فيها أربعة أخماس شاة إذا قيل : إن الإمكان من شرائط الضمان ؛ لأن الشاة مأخوذة من الخمس .
والوجه الثالث : أن فيها أربعة أتساع شاة إذا قيل : إن الشاة مأخوذة من التسع .
[ ص: 93 ] وأما الإبل التي فريضتها منها : فكرجل معه خمسة وثلاثون من الإبل حال حولها ، ثم تلف منها قبل الإمكان عشرة وبقي خمس وعشرون ، فإن قلنا : إن الإمكان من شرائط الوجوب فعليه بنت مخاض ، وإن قلنا إنه من شرائط الضمان : فإن قلنا إن بنت مخاض وجبت في خمس وعشرين ، والزيادة عليها عفو ، فعليه أيضا بنت مخاض ، وإن قلنا إنها وجبت في الخمس والثلاثين فعليه خمسة أسباع بنت مخاض ، لبقاء خمسة أسباع المال ، وفي قدر زكاتها وجهان :
أحدهما : بنت مخاض .
والثاني : خمسة أسباع بنت مخاض فلو حال حوله على خمس وثلاثين من الإبل ، ثم تلف منها قبل الإمكان خمسة عشر وبقي خمس وعشرون ، ففي قدر زكاتها ثلاثة أوجه : أحدها : أربع شياه ، إذا قيل : إن الإمكان من شرائط الوجوب .
والثاني : أربعة أخماس بنت مخاض ، إذا قيل : إن الإمكان من شرائط الضمان وأن بنت مخاض وجبت في خمس وعشرين .
والثالث : أربعة أسباع بنت مخاض ، إذا قيل إنها وجبت في خمس وثلاثين لبقاء أربعة أتساع المال وعلى هذا ، وقياسه يكون جواب ما يتفرع من المسائل على هذين الأصلين وبالله تعالى التوفيق .