مسألة : قال
الشافعي رحمه الله :
ولا يطهر بالدباغ إلا الإهاب وحده ، ولو كان الصوف والشعر والريش لا يموت بموت ذوات الروح أو كان يطهر بالدباغ لكان ذلك في قرن الميتة وسيها وجاز في عظمها ، لأنه قبل الدباغ وبعده سواء .
قال
الماوردي : اعلم أن الظاهر من مذهب
الشافعي والمعول عليه من قوله إن
الصوف ، والشعر ، والريش ، والوبر ضربان : طاهر ، ونجس ، فالطاهر ضربان :
أحدهما : ما أخذ من المأكول اللحم في حياته .
والثاني : ما أخذ منه بعد ذكاته .
والنجس ضربان :
أحدهما : ما أخذ من غير المأكول وما أخذ من ميت وأنه ذو روح إذا فقدها نجس بالموت ، وكذلك في
العظم ، والقرن ، والسن ، والظفر ينجس بالموت ، هذا المروي عن
الشافعي - رحمه الله - في كتبه ، والذي نقله أصحاب القديم ، وحكى
أبو العباس بن سريج ، عن
أبي القاسم الأنماطي ، عن
إبراهيم المزني ، أن
الشافعي رجع عن
تنجيس الشعر ، وحكى
إبراهيم البلدي ، عن
المزني ، أن
الشافعي رجع عن تنجيس شعر ابن آدم ، وحكى
[ ص: 67 ] الربيع بن سليمان الجيزي ، عن
الشافعي أن الشعر تابع للجلد ينجس بنجاسته ويطهر بطهارته واختلف أصحابنا في هذه الحكايات الثلاث التي شذت عن الجمهور وخالفت المسطور ، فكان بعضهم يجعلها قولا ثانيا
للشافعي في الشعر أنه طاهر لا ينجس بالموت ، ولا يحله روح وامتنع جمهورهم من تخريجها قولا
للشافعي لمخالفتها نصوص كتبه وما تواتر به النقل الصحيح عن أصحابه وأنه قد يحتمل ذلك منه حكاية غيره . وأما
شعر بني آدم فخرجوه على قولين .
أحدهما : وهو الأشهر عنه أنه نجس بعد انفصاله وإن عفى عن يسيره ، لأنه شعر غير مأكول .
والثاني : وهو محكي عنه في الجديد أنه طاهر ؛ لأن ابن آدم لما اختص شعره بالطهارة ميتا اختص شعره بالطهارة منفصلا ، وكان
أبو جعفر الترمذي من أصحابنا يزعم أن شعر النبي صلى الله عليه وسلم وحده طاهر ، وشعر غيره من الناس نجس ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم حين حلق شعره
بمنى قسمه بين أصحابه ، ولو كان نجسا لمنعهم منه ، وليس بمنكر اختصاص نبي الله صلى الله عليه وسلم بهذه الفضيلة قيل له : وإن كان هذا دليلا على طهارة شعره فقد حجمه
أبو طيبة وشرب من دمه بحضرته ، أفتقول إن
دمه طاهر ؟ فركب الباب ، وقال : أقول بطهارته ، لأنه لا يجوز أن يقر أحدا على منكر ، وقد أقر
أبا طيبة على شربه .
قيل : فقد روي أن امرأة شربت بوله فقال : " إذا لا يوجعك بطنك " أفتقول
بطهارة بوله ؟ قال : لا ؛ لأن البول منقلب من الطعام والشراب ، وليس كذلك الشعر والدم ، لأنهما من أصل الخلقة قيل له : فقد بطل دليلك على طهارة دمه بإقراره
أبا طيبة على شرابه ، وهذا قول مدخول ورسول الله صلى الله عليه وسلم كسائر أمته كان منهم طاهر ونجس ، وما فعله من تقسيم شعره بين
[ ص: 68 ] أصحابه فقد ألقى شعره مرارا ولم يقسمه ولا خص به أحدا ، وإنما فعل ذلك مرة
بمنى ، وقصد به أحد أمرين : إما التوصل إليهم من بركته ، وإما لتميز من خصه فيصير ذلك لهم شرفا وفخرا ، وقد أنكر على
أبي طيبة شربه دمه ونهاه عن مثله وقال : حرم الله جسمك على النار .
فإذا تقرر ما وصفنا فالمذهب
نجاسة الشعر بالموت لحلول الروح فيه ، ومن أصحابنا من قال : أقول فيه لا حياة ولا أقول فيه روح ، وهذا اختلاف عبارة تتفق المعنى فيه .
وقال
أبو حنيفة : الشعر والعظم ليس بذي روح ، ولا ينجس بالموت .
وقال
مالك : الشعر ليس بذي روح ولا في العظم روح تنجس بالموت .
واستدلوا على ذلك من وجهين :
أحدهما : أن لا روح فيه .
والثاني : أنه لا ينجس بالموت .
فأما دليلهم على أن لا روح فيه فمن ثلاثة أوجه :
أحدها : أن الألم من سمات الروح ، فلما كان وجوده دليلا على ثبوت الحياة كان انتفاؤه دليلا على عدم الحياة ، وليس في الشعر والعظم ألم فلم يكن فيه حياة .
والثاني : أن ما حلته الحياة أسرع إليه الفساد بزوال الحياة كاللحم ، فلما كان العظم والشعر على حال واحدة قبل الموت وبعده في انتفاء الفساد عنه دل على أن لا حياة فيه .
والثالث : أن ما حلته الحياة فالشرع مانع من أخذه منه في حال الحياة كالجلد وما لم تحله الحياة لم يمنع الشرع من أخذه منه في حال حياته كاللبن ، فلما جاز أخذ الشعر من الحيوان دل على أن ليس فيه حياة .
وأما دليله على أنه
لا ينجس بالموت فمن أربعة أوجه :
أحدها : قوله تعالى :
ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثا ومتاعا إلى حين [ النحل : 80 ] فكان منها دليلان :
أحدهما : ما يقتضيه عموم لفظها من التسوية بين الحي والميت .
[ ص: 69 ] والثاني : أنه خطاب خرج على وجه الامتنان فلم يجز أن يحكم بتنجيس شيء منه لما فيه من إسقاط الامتنان .
والثاني : حديث
nindex.php?page=showalam&ids=54أم سلمة أن النبي عليه السلام قال : "
لا بأس بمسك الميت إذا دبغ وشعرها إذا غسل " ، فما اقتضى هذا الحديث طهارة الشعر بعد الغسل ، والعين النجسة لا تطهر بالغسل ، دل على طهارة الشعر قبل الغسل .
والثالث : ما روي أن النبي - عليه السلام - سئل عن الفراء فقال : " أين الدباغ " فدل على طهارة الشعر بالدباغ .
والرابع : أن الأعيان التي لا تنجس بانفصالها من الحيوان الحي لا تنجس باتصالها بالحيوان كالولد طردا والأعضاء عكسا ، فلما لم ينجس الشعر بأخذه حيا لم ينجس باتصاله ميتا .
والدلالة عليهم من وجهين :
أحدهما : إثبات الحياة فيه .
والثاني : نجاسة الموت . فأما الدليل على ثبوت الحياة فثلاثة أشياء :
أحدها : قوله تعالى :
قال من يحيي العظام وهي رميم قل يحييها الذي أنشأها أول مرة [ 78 ، 79 ] . والإحياء إنما يكون بحياة تعود بها إلى ما قبل الموت .
والثاني : أن النماء من سمات الحياة لحدوث النماء بوجودها وفقده بزوالها ، فلما كان الشعر ناميا في حال الاتصال مفقود النماء بعد الانفصال دل على ثبوت الحياة فيه .
والثالث : أن ما اتصل ناميا بذي حياة وجب أن تحله كاللحم طردا واللبن عكسا .
وأما الدليل على نجاسة بالموت فخمسة أشياء :
أحدها : قوله تعالى :
حرمت عليكم الميتة [ المائدة : 3 ] . هذا تحريم تنجيس لعدم حرمته والشعر من جملة الميتة ؛ لأنه لو حلف لا يمس ميتة يحنث بمسه وليس إذا انفرد باسم بعد الانفصال فخرج من أن يكون من الجملة في الاتصال كاسم الإنسان ، وإذا كان كذلك وجب أن يدخل في عموم التحريم .
والثاني : أنه شعر نابت على محل نجس فوجب أن يكون نجسا كشعر الخنزير .
والثالث : أن ما طرأ على الحيوان من حظر تعلق به وبالشعر كالإحرام .
[ ص: 70 ] والرابع : أن ما ورد التعبد بقطعه في حال نجس بالموت قياسا على موضع الختان ، والتعبد في قطع الشعر يكون في حال الإحرام .
والخامس : أن ما وجب الأرش بقطعه لحقه حكم التنجيس كاللحم .
فأما الجواب عن قولهم : إن علة الحياة حدوث الألم فهو أن للحياة علتين : حدوث الألم في حال ، ووجود النماء في حال ، وكل واحد منهما علة للحياة ، ولا يجوز أن يكون فقد الألم مانعا من ثبوت الحياة لأمرين :
أحدهما : أنه قد يفقد الألم من لحم العصب ولا يدل على عدم الحياة فكذلك الشعر .
والثاني : أن الألم قد يختلف في المواضع المؤلمة على حسب كثرة الدم فيه أو قربه من العصب ولا يدل ذلك على أن الحياة مختلفة فيه بحسب ألمه ، فكذلك في حال عدمه .
وأما استدلالهم بأن امتناع الفساد عنه دليل على عدم الحياة منه فليس بصحيح ، لأن إسراع الفساد إنما يكون لكثرة الرطوبة ، ألا ترى أن الجلد قبل دباغه يسرع إليه الفساد لرطوبته وبعد الدباغ ينتفي عنه الفساد لذهاب رطوبته ، ولا يدل على أن الجلد لا حياة فيه كذلك الشعر .
وأما استدلالهم بورود الشرع بإباحة أخذه في الحياة بخلاف اللحم فهو أن هذا لا يدل على وجود الحياة في اللحم وفقدها في الشعر ، ولكن
أخذ الشعر في حال الحياة لا يضر بالحيوان وربما نفعه ، فورد الشرع بإباحة أخذه لانتفاء الضرر عنه ، واللحم في أخذه منه إضرار به : فمنع الشرع من أخذه منه .
وأما استدلالهم بقوله تعالى :
ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثا ومتاعا إلى حين [ النحل : 80 ] . فالجواب عنه من ثلاثة أوجه :
أحدها : أنها عامة ومخصوصة بما ذكرنا من الدليل .
والثاني : أنها مجملة لأنه أباحها إلى حين ، فقد يحتمل ذلك إلى حين الموت .
والثالث : أنها تقتضي التبعيض ، لأنه قال :
ومن أصوافها فدل على أن منها ما لا يكون أثاثا ، ومنها ما يكون أثاثا .
وأما استدلالهم بحديث
nindex.php?page=showalam&ids=54أم سلمة ، فراويه
يوسف بن السفر ، عن
الأوزاعي ، عن
يحيى بن كثير ، عن
أبي سليم ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=54أم سلمة ، عن النبي - عليه السلام -
ويوسف بن السفر ضعيف ، ولو صح لكان الجواب عنه من وجهين :
[ ص: 71 ] أحدهما : أن قوله لا بأس لا يدل على الطهارة وإنما يقتضي إباحة الاستعمال .
والثاني : أنه شرط فيه الغسل ، فاقتضى أن يكون قبل الغسل نجسا ، والغسل غير معتبر فلم يكن في ظاهره دليل .
وأما الجواب عن قوله حين سئل عن الفراء " أين الدباغ " يعني لاستصلاح لبسها إذ لا يكون لبسها قبل الدباغ .
وأما استدلالهم فإنما لم ينجس بموت الأم لأمرين :
أحدهما : أنه منفصل عنها والشعر متصل بها .
والثاني : أن الحياة لا تفارق الولد بموت الأم وتفارق الشعر بموت الأصل لوجود النماء في الولد وفقد النماء في الشعر ، فإذا ثبت نجاسة الشعر بالموت فلا يطهر بالغسل ، ولا بالدباغ .
وقال
الحسن البصري والليث بن سعد والأوزاعي : والشعر ينجس بالموت ، ولكن مطهر بالغسل لقوله عليه السلام : "
لا بأس بمسك الميتة إذا دبغ وشعرها إذا غسل " وهذا الذي قالوه ليس بصحيح ؛ لأن
الأعيان النجسة لا تطهر بالغسل كاللحم ، والروث ، والخبر محمول على نفي الناس في إباحة الاستعمال في حصول التطهير ، فلو
دبغ جلد الميتة بشعره لطهر الجلد دون الشعر ، لتأثير الدباغة في الجلد دون الشعر ، ولا يستحب استعماله إلا بعد إماطة الشعر عنه ، فإن استعماله قبل إماطته في يابس جاز ، وإن استعماله في ذائب نظر ، فإن استعمله في باطنه الذي لا شعر عليه جاز ، وإن استعمله في ظاهره الذي عليه الشعر نجس ، إلا أن يكون قلتين من ماء فيكون طاهرا .
[ ص: 72 ]