فصل : وأما
العائد في قتله وهو أن يقتل صيدا فيفديه أولا بفدية ، ثم يقتل صيدا ثانيا فعليه جزاء ثان .
وقال
داود بن علي الظاهري : لا جزاء عليه في الثاني ولو عاد مائة مرة ، وإنما يجب الجزاء بالمرة الأولى وهو في الصحابة قول
ابن عباس ، وفي
التابعين قول
مجاهد وشريح والحسن وقتادة والنخعي استدلالا بقوله تعالى :
ومن قتله منكم متعمدا فجزاء [ المائدة : 95 ] ، فعلق وجوب الجزاء على لفظ " من " والحكم إذا تعلق بلفظ " من " اقتضى مرة واحدة ، ولم يتكرر الحكم بتكرار الفعل كقولهم : من دخل داري فله درهم ، فإذا دخلها مرة واحدة استحق درهما ، ولو عاد في دخولها لم يستحق شيئا ، وكما لو قال لنسائه : من خرجت من الدار فهي طالق ، فخرجت واحدة منهن طلقت ، ولو عادت فخرجت ثانية لم تطلق ، كذلك قاتل الصيد إذا قتله مرة لزمه الجزاء ولو عاد لقتله لم يكن يلزمه الجزاء . قالوا : ولأن الله تعالى قال في سياق الآية :
ومن عاد فينتقم الله منه فأخبر بأن حكم العائد الانتقام منه كما أخبر أن حكم المبتدئ الجزاء ، فدل على أن لا حكم للعائد غير الانتقام ؛ كما أن لا حكم للمبتدئ غير الجزاء ، والدلالة عليه قوله تعالى :
لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم [ المائدة : 95 ] ، وفي هذه الآية دليلان :
285
[ ص: 285 ] أحدهما : أن قوله تعالى :
لا تقتلوا الصيد إشارة إلى جنس الصيد : لأن الألف واللام يدخلان لجنس أو معهود ، وليس في صيد معهود فثبت دخولهما للجنس ، ولفظ الجنس يستوعب جملته وآحاده ، ثم قال الله تعالى :
ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم [ المائدة : 95 ] ، فكان ذلك عائدا إلى جملة الجنس وآحاده : لأنه عطف عليه بها الكناية ، وحكم العطف أن يعود إلى ما تناوله المعطوف عليه .
فإن قيل فقوله تعالى :
ومن قتله منكم متعمدا يعني ومن قتل واحدا من الجنس دون جميعه ؛ لأنه لو أراد جميع الجنس لكانت الكناية عائدة إليه بالهاء والألف فيقول : ومن قتلها منكم متعمدا قيل : إنما ترجع الكناية بالهاء والألف إذا عادت إلى استغراق الجنس من جهة اللفظ دون المعنى كقولهم صيود ، فأما إذا عادت إلى لفظ يستغرق الجنس من جهة المعنى دون اللفظ فإنما تعود بكناية التذكير والتوحيد وهي الهاء دون الألف ؛ كقولهم : من دخل الدار فله درهم ، " فمن " وإن كانت تتناول الجنس من الرجال والنساء فقد عادت الكناية إليه في قولهم : فله درهم بلفظ التوحيد والتذكير ، لأن استغراق الجنس من جهة المعنى دون اللفظ ، كذلك الصيد إنما علم استغراق جنسه من جهة المعنى وهو دخول الألف واللام دون اللفظ فجاز أن تعود الكناية بالهاء دون الألف ، والدلالة الثانية من الآية قوله تعالى :
فجزاء مثل ما قتل من النعم ، فأوجب مثل ما قتل ، فإذا قتل صيدين وجب عليه مثلهما ؛ لأن الجزاء الواحد لا يكون مثلا لهما ؛ ولأنها نفس مضمونة بالتكفير فوجب أن يكون تكرار القتل موجبا لتكرار التكفير كنفوس الآدميين ؛ ولأنه غرم مال يجب بالإتلاف فوجب أن يتكرر الغرم فيه بتكرر الفعل منه كأموال الآدميين .
فأما استدلاله من الآية بقوله : إن الحكم المعلق بما لا يوجب تكراره بتكرار الفعل كقوله : من دخل الدار فله درهم . فالجواب : أن الحكم المعلق بـ " من " لا يتكرر بتكرار الفعل إذا كان الفعل الثاني واقعا في محل الفعل الأول ، فأما إذا كان الفعل الثاني واقعا في غير محل الفعل الأول فإن تكرار الفعل يوجب تكرار الحكم كقوله " من دخل داري فله درهم " فإذا دخل دارا له استحق درهما ولو دخل دارا له أخرى استحق ثانيا ؛ كذلك الصيد لما كان الثاني غير الأول وجب أن يتعلق بالثاني مثل ما تعلق بالأول وأما استدلاله بقوله تعالى :
ومن عاد فينتقم الله منه فالجواب عنه أن معناه ومن عاد في الإسلام فينتقم الله منه بالجزاء : لأن قبله قوله تعالى :
عفا الله عما سلف يعني : في الجاهلية ثم قال :
ومن عاد يعني : في الإسلام
فينتقم الله منه يعني : بالجزاء ؛ هكذا فسره
عطاء وغيره ، ولفظ الآية لا يقتضي غيره .
قال
الشافعي : ولا يعاقبه الإمام فيه ؛ لأن هذا ذنب جعلت عقوبته فدية إلا أن يزعم أنه يأتي ذلك عامدا مستخفا ، والله أعلم بالصواب .