[ ص: 73 ] باب الربا
وما لا يجوز بعضه ببعض متفاضلا ولا مؤجلا والصرف
سمعت
المزني يقول ( قال
الشافعي ) أخبرني
عبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفي عن
أيوب عن
محمد بن سيرين عن
مسلم بن يسار ورجل آخر عن
عبادة بن الصامت nindex.php?page=hadith&LINKID=922973أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال " لا تبيعوا الذهب بالذهب ، ولا الورق بالورق ، ولا البر بالبر ، ولا الشعير بالشعير ، ولا التمر بالتمر ، ولا الملح بالملح إلا سواء بسواء ، عينا بعين ، يدا بيد ، ولكن بيعوا الذهب بالورق ، والورق بالذهب ، والبر بالشعير ، والشعير بالبر ، والتمر بالملح ، والملح بالتمر ، يدا بيد ، كيف شئتم " ( قال ) ونقض أحدهما التمر والملح ، وزاد الآخر :
nindex.php?page=hadith&LINKID=922974فمن زاد أو استزاد فقد أربى . ( قال
الشافعي ) وهو موافق للأحاديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الصرف وبه قلنا " .
قال
الماوردي : الأصل في
تحريم الربا الكتاب والسنة ثم الإجماع .
فأما الكتاب فقوله تعالى :
ياأيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة [ آل عمران : 130 ] .
معنى قوله : " أضعافا مضاعفة " ، أي : أضعاف الحق الذي دفعتم : لأن أهل الجاهلية كان الواحد منهم إذا حل دينه ، قال لغريمه : إما أن تعطي أو تربي ، فإن أعطاه وإلا أضعف عليه الحق وأضعف له الأجل ، ثم يفعل كذلك إذا حل حتى يصير الحق أضعافا مضاعفة ، فحظر الله تعالى ذلك لما فيه من الفساد ، ثم أكد الزجر عليه بقوله :
واتقوا النار التي أعدت للكافرين [ آل عمران : 131 ] : فأخبر أن نار آكل الربا كنار الكافر .
وقال سبحانه وتعالى :
الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس [ البقرة : 275 ] . يعني لا يقومون يوم القيامة من قبورهم إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان في الدنيا من المس . يعني : الجنون .
ثم قال تعالى :
ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا وأحل الله البيع وحرم الربا وهذه الآية نزلت في
ثقيف ، وذلك أنهم كانوا أكثر العرب ربا ، فلما نزل تحريم الربا ، قالوا كيف يحرم الربا وإنما البيع مثل الربا ، فرد الله تعالى عليهم قولهم وأبطل جمعهم . ثم قال :
[ ص: 74 ] فمن جاءه موعظة من ربه يعني القرآن
فانتهى فله ما سلف يعني ما أكل من الربا . وقال سبحانه وتعالى :
ياأيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين [ البقرة : 278 ] يعني ما لم يقبض من الربا إذا أسلموا عليه تركوه ، وما قبضوه قبل الإسلام لم يلزمهم أن يردوه . ثم توعد على ذلك لتوكيد الزجر ، فقال :
فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله وإن تبتم فلكم رءوس أموالكم يعني ما دفعتموه
لا تظلمون ولا تظلمون [ البقرة : 279 ] بأن تمنعوا رءوس أموالكم
ثم قال تيسيرا على خلقه : وإن كان - من قد أربيتموه -
ذو عسرة برأس المال
فنظرة إلى ميسرة [ البقرة : 280 ] يعني إلى وقت اليسار . وهذه آخر آية نزلت من القرآن على ما روى
سعيد بن المسيب أن
عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال :
آخر ما نزل من القرآن آية الربا فإن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - قبض قبل أن يفسرها فدعوا الربا والريبة .
وأما السنة فما روي عن
عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود عن أبيه قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=922975لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - آكل الربا ومؤكله وشاهده وكاتبه .
وروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال في خطبة الوداع :
nindex.php?page=hadith&LINKID=922976ألا وإن كل ربا من ربا الجاهلية موضوع ، لكم رءوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون ، فأول ربا أضعه ربا عمي العباس ، ألا وإن كل دم من دم الجاهلية موضوع ، وأول دم أضعه دم الحارث بن عبد المطلب .
ثم قد أجمع المسلمون على تحريم الربا ، وإن اختلفوا في فروعه وكيفية تحريمه ، حتى قيل إن الله تعالى ما أحل الزنا ولا الربا في شريعة قط ، وهو معنى قوله :
وأخذهم الربا وقد نهوا عنه [ النساء : 16 ] يعني : في الكتب السالفة .
فصل : فإذا ثبت تحريم الربا بما ذكرنا من الكتاب والسنة والإجماع فقد اختلف أصحابنا فيما جاء به الكتاب من تحريم الربا على وجهين :
أحدهما : أنه مجمل فسرته السنة . وإن ما جاءت به سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإنما هو تفسير لما تضمنه مجمل كتاب الله - عز وجل - من الربا نقدا أو نساء .
والوجه الثاني : أن تحريم الربا من كتاب الله تعالى إنما يتناول معهود الجاهلية من الربا في النساء وطلب الفضل بزيادة الأجل ، ثم وردت سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بزيادة الربا في النقد فاقترنت بما تضمنه التنزيل ، وإلى هذا كان يذهب
أبو حامد المروزي .
[ ص: 75 ] فصل : فإذا تقرر أن الربا حرام ، فلا فرق في تحريمه بين دار الإسلام ودار الحرب . فكل عقد كان ربا حراما بين مسلمين في دار الإسلام ، كان ربا حراما بين مسلم وحربي في دار الحرب سواء دخل المسلم إليها بأمان أو بغير أمان .
وقال
أبو حنيفة : لا يحرم الربا على المسلم من الحربي في دار الحرب ، سواء دخل بأمان أو بغير أمان . احتجاجا بحديث
مكحول أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :
" لا ربا بين مسلم وحربي في دار الحرب " : ولأن أموال أهل الحرب مباحة للمسلم بغير عقد ، فكان أولى أن يستبيحها بعقد .
والدلالة على أن الربا في دار الحرب حرام كتحريمه في دار الإسلام ، عموم ما ذكرنا من الكتاب والسنة .
ثم من طريق المعنى والعبرة : أن كل ما كان حراما في دار الإسلام كان حراما في دار الشرك ، كسائر الفواحش والمعاصي : ولأن كل عقد حرم بين المسلم والذمي ، حرم بين المسلم والحربي كدار الإسلام : ولأنه عقد فاسد فوجب ألا يستباح به المعقود عليه كالنكاح .
فأما احتجاجه بحديث
مكحول فهو مرسل ، والمراسيل عندنا ليست حجة . فلو سلم لهم لكان قوله - صلى الله عليه وسلم - " لا ربا " يحتمل أن يكون نفيا لتحريم الربا ، ويحتمل أن يكون نفيا لجواز الربا ، فلم يكن لهم حمله على نفي التحريم إلا ولنا حمله على نفي الجواز ، ثم حملنا أولى لمعاضدة العموم له ، وأما احتجاجه بأن أموالهم يجوز استباحتها بغير عقد فكان أولى أن تستباح بعقد ، فلا نسلم إذا كانت المسألة مفروضة في دخوله إليهم بأمان : لأن أموالهم لا تستباح بغير عقد فكذا لا يستبيحها بعقد فاسد . ولو فرضت المسألة مع ارتفاع الأمان لما صح الاستدلال من وجه آخر ، وهو أن الحربي إذا دخل دار الإسلام جاز استباحة ماله بغير عقد ، ولا يجوز استباحته بعقد فاسد .
ثم نقول : ليس كل ما استبيح منهم بغير عقد جاز أن يستباح منهم بالعقد الفاسد . ألا ترى أن الفروج يجوز استباحتها منهم بالفيء من غير عقد ، ولا يجوز استباحتها بعقد فاسد ، فكذا الأموال وإن جاز أن تستباح منهم بغير عقد لم يجز أن تستباح بالعقد الفاسد . والله أعلم .