مسألة : قال
الشافعي رحمه الله تعالى : " ولا يجوز
شراء الأعمى ، وإن ذاق ما له طعم : لأنه يختلف في الثمن باللون إلا في السلم بالصفة ، وإذا وكل بصيرا يقبض له على الصفة ( قال
المزني ) يشبه أن يكون أراد
الشافعي بلفظة الأعمى الذي عرف الألوان قبل أن يعمى ، فأما من خلق أعمى فلا معرفة له بالألوان ، فهو في معنى من اشترى ما يعرف طعمه ويجهل لونه ، وهو يفسده فتفهمه ولا تغلظ عليه " .
قال
الماوردي : البيوع ضربان : بيع عين ، وبيع صفة ، فأما بيع العين فلا يصح من الأعمى إلا أن يكون بصيرا قد شاهد ما ابتاعه قبل العمى فيصح .
[ ص: 339 ] وقال
أبو حنيفة ومالك : يجوز
بيع الأعمى وشراؤه : استدلالا بعموم قوله تعالى :
وأحل الله البيع [ البقرة : 275 ] .
وبأنه إجماع الصحابة : وهو أن
العباس بن عبد المطلب ، وابنه
عبد الله بن عباس ، وعبد الله بن عمر ، كانوا يتبايعون ويشترون فلم ينكر ذلك عليهم أحد من الصحابة . فدل على أنهم مجمعون عليه .
ولأن كل من صح منه التوكيل في البيع صح منه عقد البيع كالبصير .
ولأن كل عقد جاز أن يقبله البصير جاز أن يقبله الضرير كالنكاح .
ودليلنا نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الغرر ، وعقد الضرير من أعظم الغرر .
ولنهيه صلى الله عليه وسلم عن
بيع الملامسة ، وبيع الضرير أسوأ حالا منه .
ولأنه
بيع مجهول الصفة عند العاقد فوجب أن يكون باطلا ، كما لو قال : بعتك عبدا أو ثوبا . ولأنه بيع عين فوجب أن يكون لفقد الرؤية تأثير فيه كالبصير فيما لم يره .
فأما استدلالهم بعموم الآية فمخصوص بما ذكرنا .
وأما نقلهم الإجماع فغير صحيح : لأنه لا نقل معهم أن هؤلاء باشروا عقد البيع بعد العمى ، ولو نقلوه لم يكن إجماعا ؛ لأن ترك الإنكار لا يكون رضا .
وأما قياسهم على البصير ، فالمعنى في صحة بيعه حصول مشاهدته ، والأعمى مفقود المشاهدة .
وأما قياسهم على النكاح ، فالمعنى فيه أنه لما لم يكن للرؤية تأثير فيه صح من الأعمى ، ولما كان للرؤية تأثير في البيع لم يصح من الأعمى .
فصل : وأما
بيع الصفة فهو السلم ، ويصح ذلك من الأعمى بيعا وشراء : لأن السلم عقد على صفة يفتقر إلى الخبر دون النظر ، فاستوى فيه الأعمى والبصير : لاستوائهما في المخبرات ، وإن اختلفا في بيوع الأعيان لاختلافهما في المشاهدات .
فأما قول
المزني : يشبه أن يكون أراد
الشافعي إلى آخر كلامه ، فكأن
المزني يذهب إلى أن
الأعمى لا يصح منه عقد السلم إلا أن يكون بصيرا قد عرف الألوان ثم عمي .
فأما الأكمه الذي خلق أعمى ، فلا يصح منه السلم لجهله بالألوان .
وخرج مذهب
الشافعي كذلك ، واختلف أصحابنا فكان بعضهم يحمل الأمر على ما قاله
المزني . وذهب جمهورهم إلى من عقد السلم في
عقد السلم بين الأعمى الذي كان بصيرا ، وبين من خلق أعمى لم يبصر : لأن من خلق أعمى وإن لم يعرف الألوان فهو يعرف أحكامها ، ويعلم اختلاف قيم الأمتعة باختلاف ألوانها ، وأن الحنطة البيضاء أجود من الحنطة
[ ص: 340 ] السمراء ، فصار فيها كالبصير وكالأعمى الذي كان بصيرا ، ألا ترى أن البصير لو وصف له متاع لم يره ، ولا عرفه في بلد تبعد عنه ، جاز أن يسلم فيه ، وإن لم يعرف الصفات التي اشتمل العقد عليها إذا علم تفاصيلها باختلافها ، فكذلك سلم الأعمى .
فإذا ثبت أن عقد السلم يصح منه فقبضه عند حلوله لم يصح منه ، لأن القبض يحتاج إلى استيفاء الصفات المستحقة بالعقد ، وذلك مما لا يدرك إلا بالمشاهدة والنظر ، فجرى مجرى عقد البيع على عين لا تصح من الأعمى حتى يوكل فيه بصيرا يعقد عنه أوله .
كذلك لا يصح من الأعمى قبض المسلم فيه ولا إقباضه حتى يوكل من يقبض له إن كان مشتريا أو يقبض عنه إن كان بائعا ، والله أعلم .