فصل : وأما
قوله تعالى : وأقيموا الصلاة وغيرها من الآي التي تضمنها ذكر الصلاة ، فقد اختلف أصحابنا في جملة العلماء : هل ذلك من المجمل الذي لا يعقل معناه إلا بالبيان ؟ أو هو ظاهر معقول المعنى ؟ قيل : ورود البيان على وجهين :
أحدهما : من المجمل المفتقر إلى البيان في معرفة المراد به ، لأن مجرد اللفظ لا يدل عليه ، والبيان لا يستغنى عنه
والوجه الثاني : إن لهذا اللفظ ظاهرا يعقل معناه ما لم يرد البيان بالعدول عنه ، أو باستعمال شروط فيه : لأن القرآن نزل بلسان عربي تحدى الله به العرب ، فلو كان فيه ما ليس بمعقول المعنى لأنكروه ، ثم اختلفوا في الاسم : هل جاء به الشرع كما جاء ببيان الحكم أو كان معروفا عند أهل اللسان ، والشرع المختص ببيان الأحكام على ثلاثة مذاهب :
أحدها : أن النبي صلى الله عليه وسلم أحدث الأسماء شرعا ، كما بين الأحكام شرعا ، لأنه لما جاز أن يرد الشرع بما لم يكن عبادة من قبل افتقر ما ورد به الشرع إلى أسماء مستحدثة بالشرع ، وهذا قول من زعم أن اسم الصلاة مجمل ، فجعله مستحدثا بالشرع ، لأن العرب لم تكن تعرفه على هذه الصفة
والمذهب الثاني : أن الشرع مختص بورود الأحكام ، فأما الأسماء فمأخوذة من أهل اللغة واللسان : لأن الأسماء لو ردت شرعا لصاروا مخاطبين بما ليس من لغتهم ، ولخرج
[ ص: 10 ] القرآن كله من أن يكون بلسان عربي مبين ، وقد قال تعالى :
وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية [ الأنفال : 35 ] . فأخبر أنهم كانوا يصلون ويعتقدونها عبادة وإن كانت مكاء وتصدية
والمكاء : الصفير ، وفي التصدية تأويلان :
أحدهما : التصفيق ، وهو قول
ابن عمر ، وابن عباس
والثاني : الصد عن البيت ، وهو قول
سعيد بن جبير ، وابن زيد ، وهذا مذهب من زعم أن اسم الصلاة ظاهر وليس بمجمل
المذهب الثالث : وهو مذهب جمهور أهل العلم وكافة أهل اللغة ، أنها أسماء قد كان لها في اللسان حقيقة ، ومجاز فكان حقيقتها ما نقلها الشرع عنه ، ومجازها ما قررها الشرع عليه لوجود معنى من معاني الحقيقة فيها ، فعلى هذا اختلفوا في
المعنى الذي لأجله سميت الصلاة الشرعية صلاة على ستة أقاويل :
أحدها : وهو أشهرها أنها سميت صلاة لما يتضمنها من الدعاء ، والذي هو مسمى في اللغة صلاة ، قال الله تعالى :
وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم [ التوبة : 103 ] . أي ادع لهم ، وقال
الأعشى :
تقول بنتي وقد قربت مرتجلا يا رب جنب أبي الأوصاب والوجعا عليك مثل الذي صليت فاغتمضي
يوما فإن لجنب المرء مضطجعا
والقول الثاني : أنها سميت صلاة لما يعود على فاعلها من البركة في دينه ودنياه ، والبركة تسمى صلاة . قال الشاعر :
وصهباء طاف يهوديها وأبرزها وعليها ختم
وقابلها الريح في دنها وصلى على دنها وارتسم
يعني : أنه دعا لها بالبركة
والقول الثالث : أنها سميت صلاة لأنها تقضي إلى المغفرة التي هي مقصود الصلاة ، ومقصود الشيء أحق بإطلاق اسمه عليه مما ليس مقصودا فيه ، والمغفرة والاستغفار يسمى صلاة . قال الله تعالى :
أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة [ البقرة : 157 ] . يريد بصلوات الله : المغفرة ، لأنه ذكر بعدها الرحمة . قال الشاعر :
صلى على يحيى وأشياعه رب كريم وشفيع مطاع
[ ص: 11 ] ولذلك سميت الصلاة استغفارا . قال الله تعالى :
والمستغفرين بالأسحار يعني : المصلين
والقول الرابع : أنها سميت صلاة ، لأن المصلي إذا قام بين يدي الله تعالى في الصلاة ، فأصابه من خشيته ومراقبته ما يلين ويستقيم اعوجاجه ، مأخوذ من التصلية ، يقال : صليت العود . إذا لينته بالنار فيسهل تقويمه من الاعوجاج :
قال الشاعر :
ولكنما صلوا عصا خيزرانة إذا مسها عض الثقاف تلين
والقول الخامس : أنها سميت صلاة ، لأن المصلي يتبع فعل من تقدمه ،
فجبريل أول من تقدم بفعلها ، فكان النبي صلى الله عليه وسلم تابعا له مصليا ، ثم المسلمون بعده
قال الشاعر :
أنت المصلي وأبوك السابق
القول السادس : أنها سميت صلاة وفاعلها مصليا ، لأن رأس المأموم عند صلوى إمامه ، والصلوان عظمان عن يمين الذنب ويساره في موضع الردف . قال الشاعر :
تركت الرمح يعمل في صلاه ويكبوا للترائب والجبين