الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
مسألة : قال الشافعي : " والعاملون عليها ، من ولاه الوالي قبضها ومن لا غنى للوالي عن معونته عليها وأما الخليفة ووالي الإقليم العظيم الذي لا يلي قبض الصدقة ، وإن كانا من القائمين بالأمر بأخذها ، فليسا عندنا ممن له فيها حق ؛ لأنهما لا يليان أخذها . وشرب عمر - رضي الله عنه - لبنا فأعجبه فأخبر أنه من نعم الصدقة فأدخل إصبعه فاستقاءه . ( قال ) ويعطى العامل بقدر غنائه من الصدقة وإن كان موسرا : لأنه يأخذه على معنى الإحازة " .

قال الماوردي : وقد ذكرنا أن سهم العاملين على الصدقات ثابت إذا تولوا قبضها وتفريقها وساقط منها إذا تولى رب المال بنفسه ، فإن قال رب المال المتولي لتفريق زكاته أنا آخذ سهم العاملين لنفسي للقيام بالعمل في التفرقة مقام العاملين لم يجز : لأن العامل من ولاه الإمام قبضها وتفريقها نيابة عن أهل الصدقات ، ورب المال إنما هو نائب عن نفسه : لأنه لا [ ص: 494 ] يجوز أن يكون وكيلا عليها لغيره ، وإذا كان هكذا لم يخل حال رب المال إذا دفع زكاة ماله إلى الوالي من ثلاثة أحوال :

أحدها : أن يدفعها إلى الإمام الذي هو الخليفة على الأمر .

والثاني : أن يدفعها إلى والي الإقليم الناظر في جميع أموره .

والثالث : أن يدفعها إلى العامل الذي ولاه الإمام قبضها وجعل نظره مقصورا عليها ، فإن تولاه الإمام سقط منها سهم العاملين عليها : لأن ولاية الإمام عامة قد أخذ رزقه عليها من بيت المال ، فلم يجمع له بين رزقين على عمل واحد ، ولما روى الشافعي عن مالك عن زيد بن أسلم عن أبيه أن رجلا أتى عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - بلبن فشربه فأعجبه فقال من أين لك هذا ؟ فقال مررت بلقاح الصدقة فأعطونيه فجعلته في سقائي ، فاستقاءه عمر - رضي الله عنه - فدل على أنه يحرم عليه مال الصدقة ؛ ولذلك لم يستبقه في جوفه .

فإن قيل : فما تأثير استقائه بعد استهلاكه ومن أكل حراما لم يلزمه أن يستقيئه ؟

قيل في استقائه لذلك ثلاثة أمور :

أحدها : أن يعلم الناس تحريم الصدقات على الإمام .

والثاني : أن من أخذ ما لا يحل له من مغصوب وغيره فتغير في يده لم يملكه ، بخلاف ما قال أبو حنيفة .

والثالث : لئلا يستديم الاغتذاء والانتفاع بحرام ، وهكذا لو تولى قبض الصدقات وتفريقها والي الإقليم سقط منها سهم العاملين : لأنهم في عموم ولايته على ذلك الإقليم الذي قد ارتزق على عمله فيه جار مجرى الإمام .

فأما إذا اختص لعامل بقبض الزكاة تفريقها ثبت فيها حينئذ سهم العاملين عليها ليكون مصروفا إلى العامل وأعوانه فيها ؛ وإذا كان كذلك وجب أن يوصف من يجوز أن يكون عاملا فيها بها في القبض والتفرقة وهو من تكاملت فيه ست خصال :

إحداها : البلوغ : لأن الصغر لا يصح معه قبض ولا تقبيض .

والثانية : العقل الذي يصح التمييز به .

والثالثة : الحرية .

والرابعة : الإسلام : لأن الكفر يمنع من الولاية على مسلم لقوله تعالى : لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء [ الممتحنة : آية 1 ] وقدم أبو موسى الأشعري من البصرة على عمر بحساب استحسبه عمر ، فقال : من عمل هذا ؟ فقال : كاتبي ، فقال : أين هو ؟ قال : هو على باب المسجد ، قال : أجنب هو ؟ قال : لا ولكنه ذمي ، فأمره بعزله وقال : لا تأمنوهم إذ خونهم الله تعالى ولا تقربوهم إذ بعدهم الله .

[ ص: 495 ] والخامس : الأمانة : لأنها بيانه ليقصد بها حفظ المال على غير المستنيب ، فأشبه ولي اليتيم الذي إن خيفت خيانته سقطت ولايته .

والسادسة : الفقه بأحكام الزكوات فيما تجب فيه من الأموال وما لا تجب ، وفي مقاديرها وقدر الحق فيها وأوصاف مستحقيها ومبلغ استحقاقهم منها لئلا يكون جاهلا بما هو موكول إلى نظره ، فلا يصح تقليده كالحاكم إذا كان جاهلا ، وليس يلزم من عامل الصدقة أن يكون فقيها في جميع الأحكام : لأن ولاية الحاكم جامعة فاحتاج أن يكون عالما بجميع الأحكام ، وولاية عامل الصدقات مخصوصة ، فلا يحتاج إلى أن يكون عالما ، يعني : أحكامها ، فإذا تكاملت فيه هذه الخصال الستة جاز أن يكون عاملا عليها ، وسواء كان رجلا أو امرأة ، وإن كرهنا تقليد النساء لذلك لما عليهن من لزوم الخفر : لأن المرأة لما جاز أن تلي أموال الأيتام جاز أن تلي أموال الصدقات ، فأما أعوان العامل من كتابه وحسابه وجباته ومستوفيه فأجورهم من سهم العاملين لعملهم فيها ، ولا يلزم اعتبار الحرية والفقه فيهم ، لأنهم خدم فيها مأمورون ويلزم اعتبار الخصال الأربعة من البلوغ والفضل والإسلام والأمانة .

وأما الرعاة والحفظة لها بعد قبضها ففي أجورهم وجهان :

أحدهما : أنها من سهم العاملين عليها .

والثاني : من أصل الصدقات ، فأما أجرة الحمالين والنقالين فإن كانت عند أخذ ذلك من أرباب الأموال ففيها وجهان : كالرعاة والحفظة ، وإن كانت لحملها لأهل الصدقات فأجورهم في أموال الصدقات وجها واحدا .

وأما أجور الكيالين والوزانين والعدادين فعلى وجهين :

أحدهما وهو قول أبي علي بن أبي هريرة : إنها على أرباب الأموال : لأن ذلك من حقوق التسليم والتمكين فأشبه أجرة الكيال والوزان في المبيع ، يختص بها البائع دون المشتري .

والوجه الثاني وهو قول أبي إسحاق المروزي إنها في سهم العاملين ، والفرق بين هذا وبين البيع أن البيع مكيل في حق البائع وهذا مكيل في حق أهل السهمان ، فصار ما يلزم من أجور العمل في أموال الصدقات تنقسم أربعة أقسام :

أحدها : ما كان في سهم العاملين من الصدقات وهو العامل وأعوانه .

والثاني : ما كان في أموال الصدقات من غير سهم العاملين ، وهو أجور الحمالين والنقالين إلى أهل الصدقات .

والثالث : ما كان على أرباب الأموال في أحد الوجهين ومن سهم العاملين في الوجه الثاني وهو أجرة الكيال والوزان .

والقسم الرابع : ما اختلف أصحابنا فيه وهو أجرة الرعاة والحفظة ، فأحد الوجهين أنه من سهم العاملين .

[ ص: 496 ] والثاني : من مال الصدقات .

التالي السابق


الخدمات العلمية