مسألة : قال
الشافعي : "
والمؤلفة قلوبهم في متقدم الأخبار ضربان : ضرب مسلمون أشراف مطاعون يجاهدون مع المسلمين فيقوى المسلمون بهم ولا يرون من نياتهم ما يرون من نيات غيرهم ، فإذا كانوا هكذا فأرى أن يعطوا من سهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو خمس الخمس ما يتألفون به سوى سهامهم مع المسلمين ، وذلك أن الله تعالى جعل هذا السهم
[ ص: 498 ] خالصا لنبيه - صلى الله عليه وسلم - فرده في مصلحة المسلمين ، ( واحتج ) بأن
nindex.php?page=hadith&LINKID=923780النبي - صلى الله عليه وسلم - أعطى المؤلفة يوم حنين من الخمس مثل عيينة والأقرع وأصحابهما ولم يعط عباس بن مرداس وكان شريفا عظيم الغناء ، حتى استعتب فأعطاه النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ( قال
الشافعي ) - رحمه الله - لما أراد ما أراد القوم احتمل أن يكون دخل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منه شيء حين رغب عما صنع
بالمهاجرين والأنصار فأعطاه على معنى ما أعطاهم ، واحتمل أن يكون رأى أن يعطيه من ماله حيث رأى أن يعطيه : لأنه له - صلى الله عليه وسلم - خالصا للتقوية بالعطية ولا نرى أن قد وضع من شرفه فإنه - صلى الله عليه وسلم - قد أعطى من خمس الخمس النفل وغير النفل : لأنه له وأعطى
صفوان بن أمية ولم يسلم ولكنه أعاره أداة فقال فيه عند الهزيمة أحسن مما قال بعض من أسلم من
أهل مكة عام الفتح ، وذلك أن الهزيمة كانت في أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم
حنين أول النهار فقال له رجل : غلبت
هوازن وقتل
محمد - صلى الله عليه وسلم - ، فقال
صفوان بن أمية : بفيك الحجر ، فوالله لرب من
قريش أحب إلي من رب من
هوازن ، ثم أسلم قومه من
قريش وكان كأنه لا يشذ في إسلامه ، والله تعالى أعلم .
( قال
الشافعي ) : فإذا كان مثل هذا رأيت أن يعطى من سهم النبي - صلى الله عليه وسلم - وهذا أحب إلي للاقتداء بأمره - صلى الله عليه وسلم - ، ( ولو قال ) قائل : كان هذا السهم لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فكان له أن يضع سهمه حيث يرى فقد فعل هذا مرة وأعطى من سهمه - صلى الله عليه وسلم - رجالا من
المهاجرين والأنصار : لأنه ماله يضعه حيث رأى ولا يعطي أحدا اليوم على هذا المعنى من الغنيمة ، ولم يبلغنا أن أحدا من خلفائه أعطى أحدا بعده ، ولو قيل ليس للمؤلفة في قسم الغنيمة سهم مع أهل السهمان كان مذهبا ، والله أعلم .
( قال ) وللمؤلفة في قسم الصدقات سهم ، والذي أحفظ فيه من متقدم الخبر أن
عدي بن حاتم جاء إلى
أبي بكر الصديق أحسبه بثلاثمائة من الإبل من صدقات قومه فأعطاه
أبو بكر منها ثلاثين بعيرا وأمره أن يلحق
بخالد بن الوليد بمن أطاعه من قومه فجاءه بزهاء ألف رجل وأبلى بلاء حسنا ، والذي يكاد يعرف القلب بالاستدلال بالأخبار أنه أعطاه إياها من سهم المؤلفة ، فإما زاده ترغيبا فيما صنع وإما ليتألف به غيره من قومه ممن لم يثق منه بمثل ما يثق به من
عدي بن حاتم ، ( قال ) فأرى أن يعطى من سهم المؤلفة قلوبهم في مثل هذا المعنى إن نزلت بالمسلمين نازلة ولن تنزل إن شاء الله تعالى ، وذلك أن يكون العدو بموضع منتاط لا يناله الجيش إلا بمؤنة ويكون بإزاء قوم من أهل الصدقات فأعان عليهم أهل الصدقات إما بلية فأرى أن يقووا بسهم سبيل الله من الصدقات وإما ألا يقاتلوا إلا بأن يعطوا سهم المؤلفة أو ما يكفيهم منه ، وكذا إذا انتاط العدو وكانوا أقوى عليه من قوم من أهل الفيء يوجهون إليه ببعد ديارهم وثقل مؤناتهم ويضعفون عنه ، فإن لم يكن مثلما وصفت مما كان في زمن
أبي بكر - رضي الله عنه - من امتناع أكثر العرب بالصدقة على الردة وغيرها لم أر أن يعطى أحد من
[ ص: 499 ] سهم المؤلفة ، ولم يبلغني أن
عمر ولا
عثمان ولا
عليا - رضي الله عنهم - أعطوا أحدا تألفا على الإسلام وقد أغنى الله - فله الحمد - الإسلام عن أن تتألف عليه رجال .
( وقال في الجديد ) لا يعطى مشرك يتألف على الإسلام : لأن الله تعالى خول المسلمين أموال المشركين لا المشركين أموال المسلمين ، وجعل صدقات المسلمين مردودة فيهم " .
قال
الماوردي : وجملة ذلك أن
مالكا وأبا حنيفة أسقطا سهم المؤلفة كما أسقط
أبو حنيفة سهم ذي القربى للاستغناء بقوة الإسلام واستعلاء أهله على الفريقين وقد مضى الكلام في سهم ذوي القربى ، فأما سهم المؤلفة فهو باق على ما سنشرحه ، قال الله تعالى :
والمؤلفة قلوبهم [ التوبة : 60 ] وتألف النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك .
والمؤلفة قلوبهم على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - ضربان : مسلمون ، ومشركون .
فأما المشركون فضربان :
أحدهما :
أشراف مطاعون ، فيهم قوة وبأس وليس لهم في الإسلام نيات ، لكنهم إن أعطوا كفوا عن قتال المسلمين وعن أذاهم مجتازين أو مسافرين ، وإن لم يعطوا قاتلوهم وتتبعوهم بالأذى في أسفارهم ومساكنهم ، مثل
عامر بن الطفيل فقد كان ذا غلظة على المسلمين ، وقتل أهل بني معونة ، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتألفه ويستكفه فأتى المدينة وقال : يا محمد ، شاركني في أمرك وكن أنت على المدر وأنا على الوبر ، فقال لم يجعل الله ذلك لي ، قال : والله لأملأنها عليك خيلا ورجالا ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : يأبى الله ذلك عليك وأبناء قبيلة الأوس والخزرج - يعني الأنصار - ، فخرج من عنده بأخبث نية فأخذته غدة مات بها وقد نزل على امرأة من سلول ، قال وهو يجود بنفسه : غدة كغدة البعير وموت في بيت سلولية .
والضرب الثاني : من الكفار
أشراف ومطاعون ، لهم في الإسلام نيات لم تخلص إن أعطوا قويت نياتهم في الإسلام فأسلموا ، وإن لم يعطوا بقوا على كفرهم مثل
صفوان بن أمية فإنه كان ذا نية في الإسلام واستعار منه النبي - صلى الله عليه وسلم - أداة فأعاره مائة درع وحضر معه حنينا ، وقال : قد انهزمت الصحابة في أول الوقعة أحسن مما قاله بعض المسلمين الذين أسلموا عام الفتح
بمكة ، فإن
أبا سفيان قال عند الهزيمة غلبت
هوازن وقتل
محمد ، فقال له
صفوان بن أمية : لفيك الحجر ، والله لرب
قريش أحب إلي من رب
هوازن ، فلما انجلت الوقعة وأحيزت غنائم
هوازن أعطاه النبي - صلى الله عليه وسلم - منها مائة بعير ، فلما رآها وقد امتلأ بها الوادي فقال : هذا عطاء من لا يخاف الفقر ، ثم أسلم بعد ذلك .
هذان الضربان من المشركين تألفهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وفي جواز تآلفهم الآن بعد وفاته قولان :
[ ص: 500 ] أحدهما : يجوز اقتداء برسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع قوله تعالى :
والمؤلفة قلوبهم [ التوبة : 160 ] .
والقول الثاني : لا يجوز : لأن الله تعالى قد أعز الإسلام وأهله بما أعطاهم من قوة وزادهم من قدرة عن أن يتألفوا بأموالهم مشركا ، ويكون تـألف النبي - صلى الله عليه وسلم - لهم إما عن حاجة إليهم عند قلة المسلمين وكثرتهم وإما لأنه كان يعطيهم من ماله الذي ملكه الله تعالى من خمس الخمس ، فكان يصنع به ما شاء مما ليس لغيره من الولاة أن يصنع مثله .
فإذا قيل لا يجوز أن يتألفوا بمال لما جعل الله تعالى أموالهم للمسلمين حولا ولم يجعل لهم في أموال المسلمين حقا منعوا ذلك من أموال الصدقات وغيرها .
وإذا قيل بجواز تألفهم جاز إذا وجد فيهم نفع التألف يعطوا مع الغنى والفقر لا من أموال الصدقات التي جعلها الله تعالى للمسلمين ، ولكن من سهم المصالح وهو خمس الخمس من الفيء والغنيمة المعدة لمصالح المسلمين العامة .