مسألة : قال
الشافعي رضي الله عنه : " قال ولو
تظاهر منها ثم لاعنها مكانه بلا فصل سقط الظهار ولو كان حبسها قدر ما يمكنه اللعان فلم يلاعن كانت عليه الكفارة " .
قال
الماوردي : أما إذا
لاعن المظاهر بعد أن مضى عليه زمان العود فقد وجبت عليه الكفارة ولا تسقط عنه باللعان كما لا تسقط عنه بالموت وإن
شرع في اللعان قبل مضي زمان العود فعلى ثلاثة أقسام :
أحدها : أن يكون قد قذف بالزنا ودخل في اللعان، فأتى بالشهادات وبقيت اللعنة الخامسة ، فقال لها : أنت علي كظهر أمي ثم عقبها باللعنة الخامسة الموجبة للتحريم فلا يكون عائدا لأن تحريم الخامسة الموجبة للتحريم أغلظ من تحريمها بالطلاق الثلاث ؛ لأنها توجب التحريم المؤبد .
والقسم الثاني : أن يكون قد قذفها بالزنا ثم ظاهر منها ثم عقبه باللعان فأخذ في الشهادات الأربع ثم باللعنة الخامسة ففي عوده وجهان :
أحدهما : أنه يكون عائدا، فتلزمه الكفارة لأنها لا تحرم عليه إلا باللعنة الخامسة ، والشهادات الأربع لا تحرم ، فكان أخذه فيها شروعا في غير التحريم فلذلك صار عائدا .
والوجه الثاني : وهو قول
أبي إسحاق المروزي وأكثر أصحابنا أنه لا يكون عائدا فلا تجب عليه الكفارة لأن تحريم اللعان لا يقع باللعنة الخامسة إلا بعد الشهادات
[ ص: 456 ] الأربع فصار أخذه فيها شروعا في التحريم، ولأنه بأخذه في الشهادات الأربع كالمطول شروعه في التحريم، وهذا لا يمنع سقوط العود ، كمن قال لها بعد العود أنت يا فلانة بنت فلان بن فلان الفلاني طالق فأطال ذكر الاسم بالنسب كان كمن اقتصر فقال : أنت طالق في سقوط العود كذلك هذا .
والقسم الثالث : أن يقدم الظهار ثم يعقبه بالقذف ثم يعقبه بالتوجه إلى الحاكم والشروع في اللعان ، فالمذهب أنه يكون عائدا يجب عليه الكفارة لأن قذفها بالزنا ليس من ألفاظ التحريم ولا من جملة اللعان فصار عائدا . وقال بعض أصحابنا لا يكون عائدا ولا تجب عليه الكفارة تعليلا بأن اللعان لا يصح إلا بقذف، فصار القذف من أسباب اللعان ، وكذلك التوجه إلى الحاكم في المطالبة باللعان، وزعم أنه وجد
للمزني في جامعه الكبير عن
الشافعي رحمه الله أنه قال : وسواء تقدم الظهار القذف أو تقدم القذف الظهار ، وقد أنكر
أبو إسحاق المروزي أن يكون ذلك في الجامع الكبير، فإن كان في بعض النسخ فيجوز أن يكون سواء بين من يقدم الظهار على القذف وبين من يقدم القذف على الظهار في ثبوت العود لا في سقوطه . والله أعلم .
مسألة : قال
المزني رضي الله عنه " قال في كتاب اختلاف
أبي حنيفة وابن أبي ليلى : لو تظاهر منها يوما فلم يصبها حتى انقضى لم يكن عليه كفارة كما لو آلى فسقطت اليمين سقط عنه حكم اليمين ( قال
المزني ) رحمه الله أصل قوله إن
المتظاهر إذا حبس امرأته مدة يمكنه الطلاق فلم يطلقها فيها فقد عاد ووجبت عليه الكفارة وقد حبسها هذا بعد التظاهر يوما يمكنه الطلاق فيه فتركه فعاد إلى استحلال ما حرم فالكفارة لازمة له في معنى قوله وكذا قال لو
مات أو ماتت بعد النهار وأمكن الطلاق فلم يطلق فعليه الكفارة " .
قال
الماوردي : اعلم أن الظهار ضربان : مطلق ومقيد .
فالمطلق : أن
يقول : أنت علي كظهر أمي، ولا يقدر ذلك بمدة ، والعود فيه بما ذكرنا من إمساكها بعد الظهار مدة يقدر فيها على الطلاق . فأما المقيد فهو أن
يقول : أنت علي كظهر أمي يوما أو شهرا أو سنة ، ولا يطلقه على التأبيد ففي كونه مظاهرا قولان :
أحدهما : لا يكون مظاهرا وبه قال
مالك رحمه الله لأن تحريم الظهار يقتضي التأبيد كالأم فإذا قدره بمدة يخرج بالتقدير من حكم الظهار وصار كمن شبه امرأته بمن
[ ص: 457 ] حرمت عليه في مدة ولا يكون مظاهرا جمعا بين تأقيت المدة المشبه بها فعلى هذا لا يراعى فيه العود لسقوط الظهار .
فأما الكفارة : فإن لم يطأ حتى مضت المدة فلا كفارة عليه ، وإن
وطئ في المدة ففي وجوب الكفارة وجهان :
أحدهما : عليه كفارة يمين على ظاهر ما قاله في هذا الموضع، ويصير بخروجه من الظهار محرما لها بغير ظهار فلزمته الكفارة كالإيلاء .
والوجه الثاني : وهو أصح، لا كفارة عليه لأن لفظ التحريم موجب للكفارة في الحال من غير أن يتعلق بالوطء، والإيلاء يمين وهذا غير حالف ، ويكون قول
الشافعي في كتاب اختلاف
أبي حنيفة وابن أبي ليلى عليه الكفارة محمولا على أنه جمع بين الإيلاء وهذا الظهار ، فعاد جوابه إلى الإيلاء دون الظهار وهذا قول
أبي الطيب بن سلمة .
فصل : والقول الثاني : أنه يكون مظاهرا بالمؤقت كما يكون مظاهرا بالمطلق المؤبد وهذا أصح القولين لأن الظهار كالطلاق ثم ثبت أنه لو قال لها : أنت طالق شهرا صار طلاقه مؤبدا كذلك إذا ظاهر منها شهرا صار مؤبدا فيستوي تقدير المدة وتأبيدها في الظهار كما يستوي في الطلاق، فيفرق بين تقدير التحريم وتأبيده في المشبه بها في الظهار، والفرق بينهما : أن الوقت إذا دخل في الظهار وقد قابله التأبيد في المشبه بها فصار مظاهرا لتحقيقه التشبيه ، وإذا دخل الوقت في المشبه بها لم يصر مظاهرا لأنه لا حقيقة لتحريم التشبيه، فعلى هذا يصير عائدا بأن يطأ في المدة، فإن لم يطأ حتى انقضت المدة فليس بعائد ولا كفارة عليه على ظاهر ما نص عليه في اختلاف
أبي حنيفة وابن أبي ليلى ، فيكون
الفرق بين الظهار المطلق ، والمقيد في العود : فيكون العود في الظهار المطلق إمساكها من غير طلاق، والظهار المقيد وطأها في مدة الظهار ، والفرق بين العودين فيهما : أن للمقيد غاية فجاز أن يكون الإمساك توقعا لانقضائها ، فلذلك لم يصر عودا وليس للمطلق، فكان الإمساك منافيا لها ولذلك صار عودا .
والوجه الثاني : وهو قول
المزني واختيار أكثر أصحابنا أن يكون عائدا فيه بالإمساك كعوده في الظهار المطلق ؛ لأن ما أوجب الكفارة لم يختلف في صفتها بالتقييد والإطلاق كسائر الكفارات .
وأجاب قائل هذا الوجه عما ذكره
الشافعي في اختلاف
أبي حنيفة وابن أبي ليلى أنه أراد عقد الظهار بالوطء في مدة مقدرة كأنه
قال : إن وطئتك في هذا اليوم فأنت علي كظهر أمي فإن لم يطأها فيه لم يصر مظاهرا فلم تلزمه كفارة وإن وطئها صار مظاهرا ولزمته الكفارة إذا مضى عليه زمان العود، وإن لم يطأ حتى مضى لم يصر مظاهرا فلم
[ ص: 458 ] تلزمه الكفارة وإنما حمل ظاهر كلام
الشافعي رحمه الله على هذا الإضمار لما ذكره
المزني في علة العود . والله أعلم .
مسألة : قال
الشافعي رحمه الله تعالى : ولو تظاهر وآلى قيل إن وطئت قبل الكفارة خرجت من الإيلاء وأثمت وإن انقضت أربعة أشهر وقفت، فإن قلت أنا أعتق أو أطعم لم نمهلك أكثر مما يمكنك اليوم، وما أشبهه، وإن قلت أصوم قيل إنما أمرت بعد الأربعة بأن تفيء أو تطلق فلا يجوز أن يجعل لك سنة " .
قال
الماوردي : وهذا صحيح إذا
جمع بين الظهار والإيلاء ثبت حكمهما، فإن قدم الظهار وعاد فيه ثم آلى صار بعد الظهار موليا ولا يمنع تحريم الظهار من ثبوت الإيلاء ؛ لأنها بعد الظهار زوجته وإن حرمت عليه وتكون مدة الإيلاء من وقت يمينه وإن كانت محرمة عليه بالظهار لأن تحريمها سبب من جهته فصار كتحريمها بإحرامه ، وإن قدم الإيلاء ثم عقبه الظهار ثبت ظهاره وصار عائدا فيه، ولا يمنع عقد اليمين في الإيلاء من ثبوت الظهار بعد لأنها بعد الإيلاء زوجته كهي قبل، ويكون زمان الظهار محسوبا عليه في مدة التربص كما ذكرنا فإن
كفر عن ظهاره في مدة التربص بعتق أو إطعام أو صوم شهرين أجزأه وسقط بالتكفير حكم الظهار وصار بعد مدة التربص كمول غير مظاهر ، وإن لم يكفر عن الظهار حتى انقضت مدة التربص فقد اجتمع عليه أمران متنافيان :
أحدهما : موجب للوطء قبل أن يكفر وهو الإيلاء .
والثاني : مانع من الوطء حتى يكفر وهو الظهار، فإن سأل أن يمهل في الإيلاء حتى يكفر عن الظهار نظر ؛ فإن كان ممن يكفر بالعتق أو الإطعام أمهل مدة يقدر فيها على العتق والإطعام كاليوم ونحوه ؛ لأن زمانه قريب يجوز الإنظار لمثله ، فإن كان ممن يكفر بالصيام لم يمهل ؛ لأن صوم شهرين إذا ضما إلى أربعة التربص صارت المدة ستة أشهر، فمنع منه لمخالفة النص وطولب بحكم الإيلاء ، فإن طلق فيه خرج بالطلاق عن حق الإيلاء وكان على ظهاره وإن أراد الوطء فيه أفتيناه بأن الظهار قد حرم عليه الوطء قبل التكفير عنه .
وهل يجب على المرأة منع نفسها منه أم لا على وجهين :
أحدهما : لا يجب عليها منع نفسها منه وعليها تمكينه من نفسها إذا دعاها لأنه تحريم يختص به دونها، فعلى هذا إن مكنته سقط حقها فكان الإثم عليه دونها ، وإن منعته سقطت مطالبتها كما لو منعته من غير ظهار .
والوجه الثاني : يجب عليها منع نفسها منه، ويحرم عليها تمكينه إذا دعاها ؛ لأن التحريم وإن كان من جهته فهو عائد عليها، ويختص بها كالرجعة فصار التحريم متوجها إليها فعلى هذا لا يسقط حقها من المطالبة بخلاف الرجعية ؛ لأن الرجعية جارية في فسخ،
[ ص: 459 ] وهذه بالظهار غير جارية في فسخ ، فهل يتحتم بتحريم الوطء عليه طلاقها ويتعين ؟ على وجهين :
أحدهما : أنه يتعين عليه الطلاق ويتحتم ؛ لأنه إذا كان مخيرا بين شيئين فعجز عن أحدهما تعين عليه الآخر كالكفارات، فعلى هذا إن طلق طوعا وإلا طلق الحاكم عليه جبرا قولا واحدا .
والوجه الثاني : لا يتعين عليه الطلاق لأن عجزه عن الوطء بالتحريم كعجزه عنه بالمرض ثم لا يتعين عليه الطلاق في المرض كذلك لا يتعين عليه مع الظهار فعلى هذا يكون مخيرا بين الطلاق وبين أن يفيء بالإيلاء غير معذور ثم يؤخذ بالتكفير عن ظهاره ولا يمهل فيه مع المهلة منه ، فإذا كفر زال عذره ولزمه أن يفيء بالإصابة فيء معذور كالمريض إذا صح . والله أعلم .