فصل : [ القول
في أحوال الإسناد ] .
وأما الفصل الرابع في أحوال الإسناد فصحته معتبرة بثلاثة شروط .
أحدها : أن يكون الإسناد متصلا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإن كان مرسلا أو منقطعا لم يصح . والمرسل : أن يرويه التابعي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو لم يشاهده ولا يرويه عن صحابي شاهده . والمنقطع أن يكون بين الراويين رجل لم يذكر .
فأما المنقطع فليس بحجة بوفاق
أبي حنيفة .
وأما المرسل فهو عند
أبي حنيفة حجة وربما جعله أقوى من المسند لثقة التابعي بصحته في إرساله .
وليس المرسل عند
الشافعي حجة ولا يجوز العمل به إذا انفرد ، حتى يسمى
[ ص: 93 ] راويه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لأنه قد يجوز أن يسمعه عن مثله من التابعين ويجوز أن يسمعه عن من لا يوثق بصحته .
وقد قال
الشافعي : " مرسل
سعيد بن المسيب عندنا حسن " وإنما استحسنه لما يقترن به من شواهد صحته ، لأنه ما أرسل حديثا إلا وقد وجد مسندا عن أكابر الصحابة .
وأما روايات الصحابة فلا مرسل فيها : لأنه إن قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلا
شبهة في صحته .
وإن قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فالظاهر أنه عن سماعه منه .
وإن سمعه من غيره فليس يرويه إلا عن مثله : لأن صحابة الرسول - صلى الله عليه وسلم - محكوم بعدالتهم وجميعهم مقبول الرواية عنه لقوله - صلى الله عليه وسلم - "
أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم " وقد روي عن
ابن عباس أنه قال : " ليس كل ما حدثتكم به سمعته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولكن سمعت وحدثني به أصحابه " وأجرى أهل العلم وأصحاب الحديث عليه أحكام المسند دون المرسل .
والشرط الثاني : أن تكون الرواية عن مسمى مشهور بما سمي به : حتى لا يقع التدليس في اسمه فإن لم يسمه وقال : أخبرني الثقة أو من لا أتهم لم يكن حجة في صحة النقل ، لأنه قد يثق به ويكون مجروحا عند غيره .
فإن قيل : قد قال
الشافعي في أحاديث رواها أخبرني من أثق به ، وأخبرني من لا أتهم قيل قد اشتهر من عناه بهذا وأنه أراد بمن يثق به
إبراهيم بن إسماعيل فصار كالتسمية له ، وإن كان الأولى أن يصرح باسمه لكنه ربما أشكل عليه وقت الحديث اسم الراوي وهو واحد من عدد ثقاة فيتخرج أن يسمي من لا يقطع بصحته فعدل عنه إلى ما لا جرح فيه فقال أخبرني الثقة ، فلا وجه لمن أنكر ذلك عليه من أصحاب الحديث مع ظهور العذر فيه .
والشرط الثالث : أن يعرف عدالة كل واحد من الرواة حتى يتصل ذلك بالصحابة . وليست رواية العدل عن غيره دليلا على عدالته ، قد يروي العدل عن عدل أو غير عدل ؛ هذا
الشعبي يقول في روايته : " حدثني
الحارث الأعور وكان والله كذابا " .
فإن قيل أفيجوز أن
يروي عن غير عدل ، قيل يجوز في المشاهير ولا يجوز في المناكير .
ويجوز أن يروي المتقدم عن المتأخر ، قد روى
ابن سيرين عن
خالد الحذاء عن
أبي قلابة حديث القرعة ، وسمع
إبراهيم عن
الأعمش حديث قيام المأموم عن يمين
[ ص: 94 ] الإمام .
وإن كانت عدالة الرواة شرطا في صحة الحديث لم يخل حالهم من ثلاثة أقسام . أحدها : أن تعلم عدالتهم فيحكم بصحة الحديث .
والثاني : أن يعلم جرحهم أو جرح أحدهم فلا يحكم بصحته .
والثالث : أن تجهل أحوالهم في الجرح والتعديل فعند
أبي حنيفة أن روايتهم مقبولة ما لم يعلم الجرح ، وعند
الشافعي لا تقبل ما لم يعلم التعديل ، فيكشف عن عدالتهم .
فإن شهد قوم بعدالتهم وشهد قوم بجرحهم حكم بالجرح دون التعديل .
ولا يقبل الجرح حتى يذكر ما صار به مجروحا .
فإن وجدوه قد كذب في حديث واحد وجب إسقاط جميع ما تقدم من أحاديثه ووجب نقض ما عمل به منها ، وإن لم ينقض الحكم بشهادة من حدث فسقه لأن الحديث حجة لازمة لجميع الناس ، وفي جميع الأعصار فكان حكمه أغلظ من الشهادة الخاصة . وفي تعديل الراوي وجهان :
أحدهما : أن يجري مجرى الخبر ، لأنه داخل في عموم الأخبار فعلى هذا يقبل في عدالته خبر الواحد ، ويجوز أن يقبل فيه خبر المحدث .
والوجه الثاني : أنه يجري مجرى الشهادة ، لأنه حكم على غائب فعلى هذا لا يقبل في تعديله أقل من شاهدين .
وفي جواز أن يكون المحدث أحدهما وجهان ، كما لو عدل شهود الفرع لشهود الأصل .
فأما الجرح فلا يقبل فيه أقل من شاهدين ، لأنها شهادة على باطن مغيب .
فأما الصحابة فليس يعتبر فيهم إلا صحة صحبتهم وإذا صحت الصحبة قبلت أحاديثهم إذا خرجوا عمن اشتهر بالنفاق فإن الله تعالى اختار لرسوله - صلى الله عليه وسلم - من رضي عنهم ووصفهم بالرأفة والرحمة بينهم فقال تعالى
رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا [ الفتح : 29 ] .
[ القول فيمن عرف من الرواة بالتدليس ] .
وأما
من عرف من الرواة بالتدليس فصنفان :
أحدهما : من عرف بتدليس متون الأحاديث فهذا مطرح الأحاديث مجروح العدالة وهو ممن يحرف الكلم عن مواضعه فكان بالتكذيب أحق .
[ ص: 95 ] والصنف الثاني : من عرف منه تدليس الرواة مع صدقه في المتون فقد حكي أن
شريحا وهشيما والأعمش كانوا مدلسين ، وقيل إن التدليس في
أهل الكوفة أشهر منه في
أهل البصرة واتهم
سفيان بن عيينة بالتدليس في حديث رواه عن
عمرو بن دينار وكان بينه وبين
عمرو بن دينار في ذلك الحديث ثلاثة رجال فقيل له بعد الرواية عنه من حدثك بهذا فقال حدثني
علي بن المديني عن
أبي عاصم عن
ابن جريج عن
عمرو فأعله بعض أصحاب الحديث لأجل هذا ونسبه إلى التدليس وإن كان ثقة عدلا .
وإذا كان كذلك لم يخل حال التدليس في أسماء الرواة من إحدى حالتين :
إحداهما : أن يكون في إبدال الأسماء بغيرها فيعدل عن اسم
زيد بن خالد يسميه
بعمر بن بكر ؛ لنزول من عدل عن اسمه وارتفاع من عدل إلى اسمه فهذا كذب يرد به حديثه .
والحالة الثانية : أن يكون التدليس في اطراح اسم الراوي الأقرب وإضافة الحديث إلى من هو أبعد كالذي حكي عن
سفيان بن عيينة في حديثه عن
عمرو بن دينار وبينهما في بعض الأحاديث رجال وإن سمع منه في أكثرها فلا يكون بهذا التدليس مجروحا ولكن لا يقبل حديثه إذا روى عن فلان حتى يقول " حدثني " أو " أخبرني " لأن إطلاقه يحتمل التدليس فإذا قال حدثني أو أخبرني ارتفع احتمال التدليس فقبل حديثه .
وشدد بعض أصحاب الحديث حال المدلس فلم يقبل حديثه حتى يقول سمعت ولا يقبله إذا قال " حدثني " و " أخبرني " . كما لا يقبله إذا روى عن فلان .
ولو كان موثوقا بأنه لا يدلس سمعت روايته عن فلان وإن لم يقل " حدثني " أو " أخبرني " كما لا تقبل من
مالك عن
نافع عن
ابن عمر .