الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            فصل : [ القول في أحوال نقل السماع ] .

                                                                                                                                            وأما الفصل الخامس في نقل السماع : فللراوي في نقل سماعه أربعة أحوال :

                                                                                                                                            أحدها : أن يروي ما سمعه بألفاظه وعلى صيغته .

                                                                                                                                            والثاني : أن يروي معناه بغير لفظه .

                                                                                                                                            والثالث : أن ينقص منه .

                                                                                                                                            والرابع : أن يزيد عليه .

                                                                                                                                            فأما الحال الأولى في روايته للفظ الحديث على صيغته فلا يخلو مصدره من الرسول أن يكون ابتداء أو جوابا .

                                                                                                                                            فان كان ابتداء وحكاه بعد أداء الأمانة فيه كقول النبي - صلى الله عليه وسلم - " مفتاح الصلاة الوضوء وتحريمها التكبير وتحليلها التسليم " .

                                                                                                                                            [ ص: 96 ] وإن كان جوابا عن سؤال فعلى ثلاثة أضرب :

                                                                                                                                            أحدها : أن يكون الجواب مغنيا عن ذكر السؤال كما سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن التوضؤ بماء البحر فقال : " هو الطهور ماؤه ، الحل ميتته " فالراوي فيه مخير بين ذكر السؤال وبين تركه ، وإن كان ذكره أولى من تركه .

                                                                                                                                            والضرب الثاني : أن يفتقر الجواب إلى ذكر السؤال كما سئل عن بيع الرطب بالتمر فقال : " أينقص إذا يبس ؟ قيل : نعم . قال : " فلا إذن " .

                                                                                                                                            فلا يجوز أن يقتصر على رواية الجواب حتى يذكر السؤال : لأن قوله " فلا إذن لا يفهم إلا بذكر السؤال .

                                                                                                                                            والضرب الثالث : أن يكون إطلاق الجواب يحتمل أمرين فإذا نقل السؤال نفي أحد الاحتمالين كما سئل عن الشاة تذبح فيوجد في جوفها جنين ميت أفيؤكل ؟ فقال : " ذكاة الجنين ذكاة أمه " لو قاله ابتداء لاحتمل أن تكون ذكاته مثل ذكاة أمه . واحتمل أن يستباح بذكاة أمه ، وإذا ذكر السؤال صار الجواب محمولا على أنه يستباح بذكاة أمه فيكون الإخلال بذكر السؤال تقصيرا في البيان يكره وإن لم يلزم .

                                                                                                                                            ويستوي في هذا من هو أصل الخبر كالصحابي ومن قد تفرع عليه من التابعين ومن دونهم .

                                                                                                                                            [ رواية الحديث بالمعنى ] .

                                                                                                                                            وأما الحال الثانية : أن يروي معنى الحديث بغير لفظه فهو على ثلاثة أضرب :

                                                                                                                                            أحدها : أن يكون في الأوامر والنواهي كقوله : " لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا سواء بسواء " فيروى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع الذهب بالذهب إلا سواء بسواء وكقوله : اقتلوا الأسودين في الصلاة فروي أنه أمر بقتل الأسودين في الصلاة فهذا جائز ، لأن " افعل " أمر و " لا تفعل " نهي ؛ فاستويا في الخبر وكان الراوي فيهما مخيرا . ويستوي في هذا التخير من كان أصل الخبر كالصحابة ومن صار فرعا فيه كالتابعين ومن بعدهم .

                                                                                                                                            الضرب الثاني : أن يكون في نقل كلام قاله بألفاظ ويكون الكلام محتمل الألفاظ أو خفي المعنى كقوله " لا طلاق في إغلاق " .

                                                                                                                                            [ ص: 97 ] فواجب على الراوي أن ينقله بلفظه ، ولا يعبر عنه بغيره ليكون على ما تضمنه من الاحتمال والخفاء فإنه لم يذكره محتملا ولا خفيا إلا لمصلحة وليكل استنباطه إلى العلماء .

                                                                                                                                            والضرب الثالث : أن يكون المعنى جليا غير محتمل كقوله : الخير كثير وقليل فاعله فلا يجوز لمن يسمع كلامه من التابعين ومن بعدهم أن يورد المعنى بغير لفظه حتى ينقل اللفظ على صيغته فيورد المعنى بألفاظه .

                                                                                                                                            وهل يجوز لمن شاهده من الصحابة وعرف مخرج كلامه أن يورد المعنى بغير لفظه ؟ على وجهين : اختلف فيهما أصحاب الشافعي :

                                                                                                                                            أحدهما : لا يجوز كما لا يجوز لغيره من التابعين .

                                                                                                                                            والوجه الثاني : يجوز وإن لم يجز لغيره لأنه أعرف بفحواه من غيره .

                                                                                                                                            والذي أراه أنه إن كان يحفظ اللفظ لم يجز أن يرويه بغير ألفاظه لأن في كلام الرسول - صلى الله عليه وسلم - من الفصاحة مالا يوجد في كلام غيره ، وإن لم يحفظ اللفظ جاز أن يورد معناه بغير لفظه ، لأن الراوي قد تحمل أمرين : اللفظ والمعنى : فإن قدر عليهما لزمه أداؤهما وإن عجز عن اللفظ وقدر على المعنى لزمه أداؤه لئلا يكون مقصرا في نقل ما تحمل فربما تعلق بالمعنى من الأحكام ما لا يجوز أن يكتمه وقد قال تعالى ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه [ البقرة : 283 ] .

                                                                                                                                            وأما الحال الثالثة : أن ينقص من ألفاظ الخبر : فهو على ثلاثة أضرب .

                                                                                                                                            أحدها : أن يصير الباقي منه مبتورا لا يفهم معناه فلا يصح ذلك منه ، وعليه أن يستوفيه ليتم فائدة الخبر .

                                                                                                                                            والضرب الثاني : أن يكون الباقي مفهوما لكن يكون ذكر المتروك يوجب اختلاف الحكم في المذكور مثل قوله لأبي بردة بن نيار . وقد ضحى قبل الصلاة وليس عنده ما يقضيه إلا جذعة من المعز فقال " تجزيك ولا تجزي أحدا بعدك " فلو روى الناقل أنه قال : تجزيك لكان مفهوما يقتضي أن تجزي جميع الناس فلما قال : " ولا تجزي أحدا بعدك " دل على اختصاص أبي بردة بهذا الحكم . فلزم الراوي في مثل هذا الخبر أن يروي باقي قوله ، ولا يقتصر على الأول وإن كان مفهوما .

                                                                                                                                            [ ص: 98 ] والضرب الثالث : أن يكون الباقي منه مفهوم المعنى ومستقل الحكم كقوله في البحر : " هو الطهور ماؤه الحل ميتته " فيجوز أن يقتصر في الرواية على أحدهما فيروي " هو الطهور ماؤه " أو يروي " هو الحل ميتته " لأنهما حكمان فلم يلزمه الجمع بينهما في الرواية إلا أن يتعين عليه فرض الإبلاغ عند الحاجة إليه فيلزمه أداء ما تحمل كالشاهد .

                                                                                                                                            وأما الحال الرابعة : وهو أن يزيد في الخبر فهذا على ثلاثة أضرب :

                                                                                                                                            أحدها : أن تكون الزيادة شرحا للحال كما نهى عن تلقي الركبان وأن يبيع حاضر لباد يزيد فيه ذكر السبب الذي دعاه إلى هذا القول : فيصح هذا من الصحابي لأنه قد شاهد الحال ولا يصح من التابعي ، لأنه لم يشاهدها .

                                                                                                                                            والضرب الثاني : أن تكون الزيادة تفسيرا لمعنى الكلام كنهيه عن المحاقلة والمزابنة فيجوز للراوي من صحابي وتابعي أن يفسر معناهما في روايته ، فتصير الزيادة تفسيرا فيجوز ، لكن إن فسرها الصحابي . لزم قبول تفسيره بغير دليل ، وإن فسرها التابعي لم يلزم قبول تفسيره إلا بدليل .

                                                                                                                                            والضرب الثالث : أن تخرج الزيادة عن شرح السبب وتفسير المعنى فما هي إلا كذب يسير قد نزه الله تعالى عنه صحابة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وقد قال " من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار " .

                                                                                                                                            فهذا الكلام فيما يتعلق بالفصل الأول من أحكام الرواة الناقلين للسنة .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية