فصل
يجوز لغير الزوج استئجار الزوجة للإرضاع وغيره بإذن الزوج ، ولا يجوز بغير إذنه على الأصح ، لأن أوقاتها مستغرقة بحقه ، والثاني : يصح ، وللزوج فسخه ، حفظا لحقه . ولو
أجرت نفسها ولا زوج لها ، ثم نكحت في المدة ، فالإجارة بحالها ، وليس للزوج منعها من توفية ما التزمته ، كما لو
أجرت نفسها بإذنه ، لكن يستمتع بها في أوقات فراغها ، فإن كانت الإجارة للإرضاع ، فهل لولي الطفل الذي استأجرها لإرضاعه منع الزوج من وطئها ؟ فيه وجهان . أحدهما : نعم ، لأنه ربما حبلت فينقطع اللبن أو يقل ، وإلا ، فيضر بالطفل . والثاني : لا ، وبه قطع العراقيون ، لأن الحبل متوهم ، فلا يمنع به الوطء المستحق . فإن منعناه ، فلا نفقة عليه في تلك المدة .
قلت : الأصح قول العراقيين . والله أعلم .
ولو
أجر أمته المزوجة ، جاز ، ولم يكن للزوج منعها من المستأجر ، لأن يده يد السيد في الانتفاع . أما الزوج ، فيجوز استئجاره امرأته ، إلا إذا استأجرها لإرضاع ولده منها ، ففيه وجهان : أحدهما . المنع ، وبه قطع العراقيون . وأصحهما : الجواز ، كما لو استأجرها بعد البينونة ، وكما لو استأجرها للطبخ ونحوه . وعلى هذا الخلاف ،
استئجار الوالد ولده للخدمة . وفي عكسه وجهان إن كانت الإجارة على عينه ، كالوجهين فيما إذا أجر المسلم نفسه لكافر .
[ ص: 187 ] الشرط الرابع :
حصول المنفعة للمستأجر ، وأكثر العناية في هذا الشرط بالقرب ، وضبطها الإمام فقال : هي قسمان . أحدهما : قرب يتوقف الاعتداد بها على النية . فما لا تدخله النيابة منها ، لا يجوز الاستئجار عليه ، وما تدخله النيابة ، جاز الاستئجار عليه ، كالحج ، وتفرقة الزكاة . قال الإمام : ومن هذا ، غسل الميت إذا أوجبنا فيه النية . القسم الثاني : ما لا تتوقف صحته على النية ، وهو نوعان . فرض كفاية ، وشعار غير فرض . والأول ضربان . أحدهما : يختص افتراضه في الأصل بشخص وموضع معين ، ثم يؤمر به غيره إن عجز ، كتجهيز الموتى بالتكفين والغسل والحفر وحمل الميت ودفنه ، فإن هذه المؤن تختص بالتركة . فإن لم تكن ، فعلى الناس القيام بها . فمثل هذا يجوز الاستئجار عليه ، لأن الأجير غير مقصود بفعله حتى يقع عنه . ومن هذا ، تعليم القرآن ، فإن كل أحد لا يختص بوجوب التعليم وإن كان نشر القرآن وإشاعته من فروض الكفاية ، وهذا كله إذا لم يتعين واحد لمباشرة هذه الأعمال ، فإن تعين واحد لتجهيز الميت ، أو تعليم الفاتحة ، جاز استئجاره أيضا على الأصح ، كالمضطر ، يجب إطعامه ببدله . وقيل : لا ، كفرض العين ابتداء . الضرب الثاني : ما يثبت فرضه في الأصل شائعا غير مختص ، كالجهاد ، فلا يجوز استئجار المسلم عليه ، ويجوز استئجار الذمي على الصحيح .
النوع الثاني : شعار غير فرض ، كالأذان ، تفريعا على الأصح . وفي جواز
الاستئجار عليه ، ثلاثة أوجه ذكرناها في بابه . فإن جوزنا ، فعلى أي شيء يأخذ الأجرة ؟ فيه أوجه . أصحها : على جميع الأذان بجميع صفاته ، ولا يبعد
أخذ الأجرة على ذكر الله تعالى كتعليم القرآن وإن اشتمل على قراءة المعلم . والثاني :
[ ص: 188 ] على رعاية المواقيت . والثالث : على رفع الصوت . والرابع : على الحيعلتين ، فإنهما ليستا ذكرا .
فرع
الاستئجار لإمامة الصلوات المفروضة ، باطل ، وكذا للتراويح وسائر النوافل على الأصح ، لأنه مصل لنفسه . ومتى صلى ، اقتدى به من أراد وإن لم ينو الإمامة . وإن توقف على نيته شيء ، فهو إحراز فضيلة الجماعة ، وهذه فائدة تختص به . ومن جوزه ، شبهه بالأذان في الشعار .
فرع
الاستئجار للقضاء باطل .
فرع
أطلقوا القول ببطلان
الاستئجار للتدريس . وعن الشيخ
أبي بكر الطوسي ترديد جواب في
الاستئجار لإعادة الدرس . قال الإمام : ولو عين شخصا أو جماعة ليعلمهم مسألة أو مسائل مضبوطة ، فهو جائز ، والذي أطلقوه ، محمول على استئجار من يتصدى للتدريس من غير تعيين من يعلمه وما يعلمه ، لأنه كالجهاد في أنه إقامة مفروض على الكفاية ثابت على الشيوع . وكذلك يمتنع
استئجار مقرئ يقرئ على هذه الصورة ، قال : ويحتمل أن يجوز .
الشرط الخامس :
كون المنفعة معلومة العين والقدر والصفة ، فلا يجوز أن
[ ص: 189 ] يقول : أجرتك أحدهما . ثم إن لم يكن للعين المعينة إلا منفعة ، فالإجارة محمولة عليها ، وإن كان لها منافع ، وجب البيان . وأما الصفة ، فإجارة الغائبة ، فيها الخلاف السابق . وأما القدر ، فيشترط العلم به ، سواء فيه إجارة العين والذمة . ثم المنافع تقدر بطريقتين .
أحدهما : الزمان ، كاستأجرت الدار للسكنى سنة . والثاني : العمل ، كاستأجرتك لتخيط هذا الثوب . ثم قد يتعين الطريق الأول ، كاستئجار العقار ، فإن منفعته لا تنضبط إلا بالزمان ، وكالإرضاع ، فإن تقدير اللبن لا يمكن ، ولا سبيل فيه إلا الضبط بالزمان .
وقد يسوغ الطريقان ، كما إذا استأجر عين شخص أو دابة ، فيمكن أن يقول في الشخص : ليعمل لي كذا شهرا ، وأن يقول : ليخيط لي هذا الثوب . وفي الدابة يقول : لأتردد عليها في حوائجي اليوم ، أو يقول : لأركبها إلى موضع كذا ، فأيهما كان ، كفى ، لتعريف المقدار . فإن جمع بينهما فقال :
استأجرتك لتخيط لي هذا القميص اليوم ، فوجهان . أصحهما : بطلان العقد .
والثاني : صحته ، وعلى هذا وجهان . أصحهما : يستحق الأجرة بأسرعهما ، فإن انقضى اليوم قبل تمام العمل ، استحقها ، فإن تم العمل قبل تمام اليوم ، استحقها . والثاني : الاعتبار بالعمل ، فإن تم [ العمل ] أولا ، استحقها . وإن تم اليوم أولا ، وجب إتمامه . وإن قال : على أنك إن فرغت قبل تمام اليوم ، لم تخط غيره ، بطلت الإجارة ، لأن زمن العمل يصير مجهولا . فإذا عرفت هذا ، فالمنافع متعلقة بالأعيان ، تابعة لها ، وعدد الأعيان التي يستأجر لها كالمتعذر ، فعني الأصحاب بثلاثة أنواع تكثر إجارتها ليعرف طريق الضبط بها ، ثم يقاس عليها غيرها .
النوع الأول : الآدمي يستأجر لعمل أو صنعة ، كخياطة ، فإن كانت الإجارة في الذمة ، قال : ألزمت ذمتك
[ ص: 190 ] عمل الخياطة كذا يوما ، لم يصح ، لأنه لم يعين خياطا ولا ثوبا . ولو استأجر عينه ، قال : استأجرتك لتخيط هذا الثوب . ولو قال : لتخيط لي يوما أو شهرا ، قال الأكثرون : يجوز أيضا . ويشترط أن يبين الثوب وما يريد منه من قميص ، أو قباء ، أو سراويل ، والطول ، والعرض ، وأن يبين نوع الخياطة ، أهي رومية ، أو فارسية ؟ إلا أن تطرد العادة بنوع ، فيحمل المطلق عليه .
فرع
من هذا النوع ،
الاستئجار لتعليم القرآن ، فليعين السورة والآيات التي يعلمها ، فإن أخل بأحدهما ، لم يصح على الأصح . وقيل : لا يشترط تعيين واحد منهما ، بل يكفي ذكر عشر آيات مثلا . وقيل : تشترط السورة دون الآيات . وهل يكفي التقدير بالمدة فيقول : لتعلمني شهرا ؟ وجهان ، قطع الإمام
nindex.php?page=showalam&ids=14847والغزالي بالاكتفاء ، وإيراد غيرهما يقتضي المنع .
قلت : الاكتفاء أصح وأقوى . والله أعلم .
وفي وجوب تعيين قراءة ابن كثير أو نافع أو غيرهما ، وجهان . أصحهما : لا ، إذ الأمر فيها قريب . قال الإمام : وكنت أود أن لا يصح
الاستئجار للتعليم حتى يختبر حفظ المتعلم ، كما لا يصح
إيجار الدابة للركوب حتى يعرف حال الراكب ، لكن ظاهر كلام الأصحاب ، أنه لا يشترط ، والحديث الصحيح يدل عليه في الذي تزوج على تعليم ما معه من القرآن ، وإنما يجوز الاستئجار لتعليم القرآن إذا كان المتعلم مسلما ، أو كافرا يرجى إسلامه ، فإن لم يرج ، لم يعلم ، كما لا يباع المصحف لكافر ، فلا يصح الاستئجار .
[ ص: 191 ] فرع
إذا كان يتعلم الشيء بعد الشيء ، ثم ينسى ، فهل على الأجير إعادة تعليمه ؟ فيه أوجه . أحدها : إن تعلم آية ثم نسيها ، لم يجب تعليمها ثانيا ، وإن كان دون آية ، وجب والثاني : الاعتبار بالسورة والثالث : إن نسي في مجلس التعليم ، وجب إعادته . وإن نسي بعده ، فلا . والرابع : يرجع فيه إلى العرف الغالب ، وهو الأصح .
فرع
عن القاضي
حسين في " الفتاوى " : أن
الاستئجار لقراءة القرآن على رأس القبر مدة ، جائز ، كالاستئجار للأذان وتعليم القرآن .
واعلم أن عود المنفعة إلى المستأجر شرط ، فيجب عودها في هذه الإجارة إلى المستأجر أو ميته ، فالمستأجر لا ينتفع بقراءة غيره . ومعلوم أن الميت لا يلحقه ثواب القراءة المجردة ، فالوجه : تنزيل الاستئجار على صورة انتفاع الميت بالقراءة . وذكروا له طريقين .
أحدهما : أن يعقب القراءة بالدعاء للميت ، لأن الدعاء يلحقه ، والدعاء بعد القراءة أقرب إجابة وأكثر بركة . والثاني : ذكر الشيخ
عبد الكريم السالوسي ، أنه إن نوى القارئ بقراءته أن يكون ثوابها للميت ، لم يلحقه . وإن قرأ ، ثم جعل ما حصل من الأجر له ، فهذا دعاء بحصول ذلك الأجر للميت ، فينفع الميت .
قلت : ظاهر كلام
القاضي حسين : صحة الإجارة مطلقا ، وهو المختار ، فإن موضع القراءة موضع بركة ، وبه تنزل الرحمة ، وهذا مقصود ينفع الميت . والله أعلم .
[ ص: 192 ]